السلام فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا ولا أظهر عفة ، ولا أورع ورعا ولا أزهد زهدا في الدنيا ، ولا أطلق نفسا ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشد في ذات منه ، وإن البيعة له لموافقة رضى الرب عز وجل ، ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم ، ولعمري إن لو كانت بيعتي معه محاباة لكان العباس ابني وسائر ولدي أحب إلى قلبي وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمرا وأراد الله أمرا ، فلم يسبق أمري أمر الله.
وأما ما ذكرتم مما مسكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه ، ومما يلتكم إياه ، فلما قتلته تفرقتم عباديد فطورا أتباعا لابن أبي خالد ، وطورا أتباعا لأعرابي ، وطورا أتباعا لابن شكلة ، ثم لكل من سل سيفا علي ، ولولا أن شيمتي العفو وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحدا ، فكلكم حلال الدم محل بنفسه.
وأما ما سألتم من البيعة للعباس ابني ، أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويلكم إن العباس غلام حدث السن ، ولم يؤنس رشده ولم يمهل وحده ولم تحكمه التجارب ، تدبره النساء وتكفله الإماء ، ثم لم يتفقه في الدين ، ولم يعرف حلالا من حرام ، إلا معرفة لا تأتي به رعية ، وتقوم به حجة ، ولو كان مستأهلا قد أحكمته التجارب ، وتفقه في الدين ، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا وصرف النفس عنها ما كان له عندي في الخلافة إلا ما كان لرجل من عك وحمير (١) فلا تكثروا في هذا المقال ، فإن لساني لم يزل مخزونا عن أمور
__________________
(١) قال العلامة المجلسي : والعكة : الإناء الذي يجعل فيه السمن والحمير : في بعض النسخ بالخاء المعجمة وهو الخبز البائت والذي يجعل في العجين. وقال بعض : هما قبيلتان من القحطانية.