واعلم : أن هذا الذي بينه صاحب الشريعة صلوات الله عليه في هذا الخبر معلوم الصحة بالبراهين اليقينية العقلية. وذلك لأن أفعال الجوارح لا تصدر إلا عند الدواعي والصوارف في القلوب. فرجحان الفعل موقوف على حصول داعية الفعل ، ورجحان الترك موقوف على عدم حصول تلك الداعية ، لأن علة العدم : عدم العلة. فالقلب كالشيء الموصوف بين حصول تلك الداعية واللاحصول لها. فإن حصلت داعية الفعل ، حصل الفعل. وإن لم تحصل تلك الداعية ، لم يحصل ذلك الفعل. فصاحب الشريعة ، عبر (١) عن حصول هذه الداعية وعدم حصولها بالإصبعين ، لما ثبت أن حصول تلك الداعية ليس إلا بالله تعالى. وإلا لزم التسلسل.
وكما ثبت هذا المعنى بهذا البرهان العقلي ، وبهذا الخبر الذي رويناه ، ثبت أيضا بنص القرآن. وهو قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا : أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (٢).
ومن تأمل في هذه البراهين العقلية ، وضم إليها هذه الآيات ، وهذا الخبر خاصة ، ورجع إلى نفسه : لم يبق في قلبه شك في صحة مذهبنا. ولكن ذلك إنما يسهل على من سهله الله عليه.
الحجة التاسعة والعشرون : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا أعلمك كلمة من تحت العرش [كنز (٣)] من كنوز الجنة : لا قوة إلا بالله. يقول الله : «أسلم عبدي واستسلم» وجه الاستدلال به : إن القدرة بالنسبة إلى الفعل أو إلى الترك ، على السوية. وما دام تبقى القدرة على هذا الاستواء ، امتنع صدور الفعل. فإذا رجح جانب الفعل على جانب الترك بتحصيل الدواعي وإزالة الصوارف ، فحينئذ يحصل الفعل. وهذه التقوية هي المشار إليها بقوله : «لا حول ولا قوة إلا بالله» ولما كان الإيمان لا يتم ولا يكتمل إلا به ، لا جرم زعم أنه من تحت العرش ، ومن كنز الجنة.
__________________
(١) غير (م).
(٢) سورة الأنفال ، آية ؛ ٢٤.
(٣) من (ط ، ل).