فلا حجة لهم فيه أصلا لأن التفاوت المعهود : ما نافر النفوس أو خرج عن المعهود فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا ، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه فإذ ليس هو هذا الذي يسميه الناس تفاوتا ، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة ، لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت لكذب قول الله عزوجل (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك : ٣].
ولا يكذّب الله تعالى إلا كافر ، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت لأن كل ذلك موجود في خلق الله تعالى ، مرئي مشاهد بالعيان فيه. فبطل احتجاجهم. والحمد لله رب العالمين.
فإن قال قائل : فما هذا التفاوت الذي أخبر الله تعالى أنه لا يرى في خلقه ..؟
قيل لهم نعم وبالله تعالى التوفيق : هو اسم لا يقع على مسمّى موجود في العالم أصلا ، بل هو معدوم جملة ، إذ لو كان شيئا موجودا في العالم لوجد التفاوت في خلق الله تعالى ، والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه ، ثم نقول وبالله تعالى نتأيد : إن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى ، أجسامه وأعراضه كلها ، لا نحاشي شيئا منها ، ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وأنواع أجسامه جرت القسمة جريا مستويا في تفصيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لها وفصولها المفرقة بينها على رتبة واحدة ، وهيئة واحدة ، إلى أن يبلغ الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ، ولا تخالف في شيء منه أصلا ، ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معا تحت نوع الشكل والتخطيط ، ثم تحت نوع الكيفية ، ثم تحت اسم العرض ، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه ولا تفاوت البتة.
وكذلك أيضا نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ، ثم تحت نوع النفس ، ثم تحت نوع الكيفية والعرض ، وقوعا مستويا لا تفاوت فيه من هذا الوجه من التقسيم ، وكذلك أيضا نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع الهواء بآلات الكلام ، ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية ، وتحت نوع العرض وقوعا مستويا لا تفاوت فيه ولا اختلاف ، وهكذا القول في الظلم وفي الإنصاف وفي العدل وفي الجور وفي الصدق ، وفي الكذب وفي الزنا ، وفي الوطء الحلال والوطء الحرام ولا فرق ، وكذلك كل ما في العالم حتى ترجع جميع الموجودات إلى الرءوس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله عزوجل ، وهي الجوهر