وكل من لم يعلم شيئا فهو جاهل به ولا بدّ ، وكل من لم يقدر على شيء فهو عاجز عنه ولا بد.
والوجه الثاني : بالضرورة التي علمنا أن نواة التمر لا تخرج زيتونة ، وأن الفهرس لا ينتج جملا ، عرفنا أن الله تعالى لا يكذب ، ولا يجهل ، ولا يعجز ، لأن هذه صفات المخلوقين ، وجميع صفات المخلوقين عنه تعالى منتفية إلا ما جاء به نص بأن يطلق اسم من أسمائها عليه خاصة فنقف عليه. وأيضا فإن أكثر المعتزلة يحقق قدرة الباري تعالى على الظلم والكذب ، ولا يجيزون وقوعهما منه ـ تعالى ـ وليس وصفهم إياه عزوجل بالقدرة على ذلك ، بموجب إمكان وقوعه منه تعالى ، ولا ينكرون علينا أن نقول إن الله ـ تعالى ـ فعل أفعالا هي منه ـ تعالى ـ عدل وحكمة ، وهي منّا ظلم وعبث ، وليس يلزمنا مع ذلك أن نقول إنه يقول الكذب ، ويجهل ، فبطل هذا الإلزام ، والحمد لله رب العالمين.
وأيضا فإننا لم نقل إنه ـ تعالى ـ يظلم ولا يكون ظالما ، ولا قلنا إنه يكفر ولا يسمى كافرا ، ولا قلنا إنه يكذب ولا يسمى كاذبا ، فيلزمنا ما أرادوا إلزامنا إياه ، وإنما قلنا إنه خلق الظلم والكذب والكفر والشرّ والحركة والطول ، والعرض ، والسكون ، أعراضا في خلقه ، فوجب أن يسمى لكل ذلك خالقا ، كما خلق الجوع ، والعطش ، والشبع ، والري ، والهزال ، واللغات ، ولم يجز أن يسمى ظالما ، ولا كاذبا ، ولا كافرا ، ولا شريرا ، كما لم يجز عندنا وعندهم أن يسمى من أجل خلقه لكل ما ذكرناه : متحركا ، ولا ساكنا ولا طويلا ، ولا عريضا ، ولا عطشان ، ولا ريان ، ولا جائعا ، ولا شابعا ولا سمينا ، ولا هزيلا ، ولا لغويا ، وهكذا كل ما خلق الله تعالى. ومنه كل ما خلق فإنه يخبر بأنه خالق له فقط ولا يوصف بشيء مما ذكرنا إلا من خلقه تعالى عرضا فيه.
وأما قولهم : لا يفعل فعل من فاعلين هذا فعله كله وهذا فعله ، فإن هذا تحكم ونقصان من الحكمة في القسمة أوقعهم فيها جهلهم وتناقضهم ، وقولهم إنا نستدل بالشاهد على الغائب ، وهذا قول قد أفسدناه في كتابنا «الإحكام في أصول الأحكام» (١) بحمد الله ـ تعالى ـ ونبين هاهنا فساده بإيجاز.
فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنه ليس عن العقل الذي هو التمييز شيء غائب أصلا وإنما يغيب بعض الأشياء عن الحواس وكل ما في العالم فهو مشاهد بالعقل المذكور
__________________
(١) وهو مطبوع بجزءين ، وقد صدر عن دار الكتب العلمية.