لأن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول فيه ، وكلاهما يقتضي خالقا أولا واحدا لا يشبهه شيء من خلقه في وجه من الوجوه ، فإن كانوا يعنون بالغائب الباري ـ تعالى ـ فقد لزمهم تشبيهه بخلقه إذ حكموا بتشبيه الغائب بالحاضر ، وفي هذا كفاية. بل ما دل الشاهد كله إلا بأن الله ـ تعالى ـ بخلاف ما خلق من جميع الوجوه ، وحاشا لله أن يكون ـ عزوجل ـ غائبا عنا ، بل هو مشاهد بالعقل ، كما نشاهد بالحواس كلّ حاضر ، ولا فرق بين صحة معرفتنا به ـ عزوجل ـ بالمشاهدة بضرورة العقل ، وبين معرفتنا بسائر ما نشاهده.
ثم نرجع إن شاء الله ـ تعالى ـ إلى إنكارهم فعلا واحدا من فاعلين ، فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنما امتنع ذلك فيما بيننا في الأكثر على العموم لما شاهدناه من أنه لا تكون حركة واحدة في الأغلب لمتحركين ، ولا اعتقاد واحد لمعتقدين ، ولا إرادة واحدة لمريدين ، ولا فكرة واحدة لمفتكرين ، ولكن لو أخذ اثنان سيفا واحدا أو رمحا واحدا فضربا به إنسانا أو طعناه لكانت حركة غير منقسمة لمتحركين بها ، وفعلا واحدا غير منقسم لفاعلين ، هذا أمر مشاهد بالحس والضرورة وهذا أمر منصوص في القرآن من أنكره كفر ، وهو أن القراءة المشهورة عند المسلمين (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [سورة مريم : ١٩] و «ليهب لك».
كلا القراءتين مشهورة بنقل الكواف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن جبريل صلىاللهعليهوسلم.
فإذا قرئت بالهمز فهو إخبار جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم الروح الأمين أنه الواهب لها عيسى صلىاللهعليهوسلم.
وإذا قرئت بالياء : فهو من إخبار جبريل عن الله عزوجل بأن الله تعالى هو الواهب لها عيسى عليهالسلام. فهذا فعل من فاعلين ينسب إلى الله عزوجل الهبة لأن الله ـ تعالى ـ هو الخالق لهذه الهبة ، ونسبت الهبة أيضا إلى جبريل لأنه منه ظهرت إذ أتى بها ، وكذلك قوله ـ عزوجل ـ (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال : ١٧].
فأخبر تعالى أنه رمى ، وأن نبيه صلىاللهعليهوسلم رمى.
فأثبت ـ تعالى ـ لنبيه صلىاللهعليهوسلم الرمي ونفاه عنه معا. وبالضرورة ندري أن كلامه ـ تعالى ـ لا يتناقض فعلمنا أن الرمي الذي نفاه ـ عزوجل ـ عن نبيه صلىاللهعليهوسلم هو غير الرمي الذي أثبته له لا يظن غيره ، هذا مسلم البتة ، فصحّ ضرورة أن نسبة الرمي إلى الله ـ عزوجل ـ لأنه خلقه وهو ـ تعالى ـ خالق الحركة التي هو الرمي وممضي الرّمية وخالق سائر الرمي ، وهذا هو المنفي عن الرامي ، وهو النبي صلىاللهعليهوسلم.