فإن قالوا : إنما نفعلها كما قوّانا ـ تعالى ـ على فعلها ، فليعلموا أن الله ـ عزوجل ـ هو المقوي على فعل الخير والشر ، فإنّ به عزوجل كان الخير والشر ، ولولاه لم يكن خير ولا شر ، فهو كوّنهما وبه كانا وأعان عليهما ، فأظهرهما واخترع كل ذلك وهذا هو معنى خلقه ـ تعالى ـ لها وبالله تعالى التوفيق.
ومن البرهان على أن الباري تعالى خالق أفعال خلقه قوله عزوجل حاكيا عن سحرة فرعون ـ رضي الله عنهم ـ مصدقا لهم ومثبتا عليهم قولهم (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) [سورة الأعراف : ١٢٦].
فصحّ أنه ـ تعالى ـ خالق ما يفرغه عليهم من الصبر الذي لو لم يفرغه على الصابر لم يكن له صبر.
وأيضا فإن جنس الحركات كلها والسكون كله والمعارف كلها جنس واحد ، وكل ما قيل على الكل قيل على جميع أجزائه ، وعلى كل بعض من أبعاضه ، فنسألهم عن حركات الحيوان غير الناطق وسكونه ومعرفة ما يعرف من مضاره ومنافعه ، في أكله وشربه وغير ذلك ، أكل ذلك مخلوق لله عزوجل أم هو غير مخلوق ..؟
فإن قالوا : كلّ ذلك مخلوق كانوا قد نقضوا هذه المقدمات التي شهد العقل والحسّ بصدقها ، وظهر فساد قولهم في التفريق بين معرفتنا ومعرفة سائر الحيوان وبين حركاتنا وبين حركات سائر الحيوان وبين سكوننا وسكونه ، وهذه مكابرة ظاهرة ودعوى بلا برهان.
وإن قالوا : بل كل ذلك غير مخلوق ألزمناهم مثل ذلك في سائر الأعضاء كلها.
فإن تناقضوا ، كفونا أنفسهم ، وإن تمادوا لزمهم أن الله ـ تعالى ـ لم يخلق شيئا من الأعراض وهذا إلحاد ظاهر وإبطال للحق وكفر ، وكفى بهذا إضلالا ونعوذ بالله ـ تعالى ـ من الخذلان. ويكفي من هذا أن الأفعال تجري على صفات الفاعل ونحن نجد الحكيم لا يقدر على الطيش والبذاء ، والطياش لا يقدر على الحياء والصبر ، والسيئ الأخلاق لا يقدر على الحلم ، والحليم لا يقدر على النزق ، والسخيّ لا يقدر على المنع ، والشحيح لا يقدر على الجود ، قال الله عزوجل (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة الحشر : ٩].
فصح أن من الناس من وقي شح نفسه كان مفلحا ، وأن من لم يوق شح نفسه لم يفلح ، وكذلك الذكي لا يقدر على البلادة ، وذو البلادة لا يقدر على الذكاء ، والحافظ لا يقدر على النسيان ، والناسي لا يقدر على ثبات الحفظ ، والشجاع لا يقدر