حرّم ذلك علينا فقط ، وقد علمت المعتزلة كثرة عدد من يخالفهم في أن هذا لا يقبح من الله تعالى الذي لا أمر فوقه ، ولا يلزمه حكم عقولنا ، وما دعواهم على مخالفيهم في هذه المسألة أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إلا كدعوى المجسّم عليهم أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته ، إذ أجازوا وجود الفعل ممن ليس جسما ، وإذ أجازوا حيا بلا حياة ، وعالما لا بعلم.
قال أبو محمد : وكلتا الدعوتين على العقول كاذبة ، وقد بينا فيما سلف من كتابنا هذا غلط من ادعى في العقل ما ليس منه ، وبينا أن العقل لا يحكم به على الله الذي خلق العقل ورتبه على ما هو به ، ولا مزيد ، وبالله تعالى التوفيق.
وقال بعض المعتزلة : إن من القبيح بكل حال والمحظور في العقل بكل وجه كفر نعمة المنعم وعقوق الأب.
قال أبو محمد : وهذا غاية الخطأ ، لأن العاقل المميز بالأمور إذا تدبرها علم يقينا أنه لا منعم على أحد إلا الله وحده لا شريك له ، الذي أوجده من عدم ثم جعل له الحواس والتمييز وسخّر له ما في الأرض وكثيرا مما في السماء وخوّله المال ، وأن كل منعم دون الله عزوجل فإن كان منعما بمال فإنما أعطى من مال الله عزوجل ، فالنعمة لله عزوجل دونه ، وإن كان ممرضا ، أو معتقدا أو خائفا من مكروه ، فإنما صرف في ذلك كل ما وهبه الله عزوجل من الكلام والقوة والحواس والأعضاء ، وإنما تصرّف بكل ذلك في ملك الله عزوجل وفيما هو تعالى أولى به منه.
فالنعمة لله عزوجل دونه ، فالله تعالى هو ولي كلّ نعمة ، فإذ لا شك في ذلك فلا منعم إلّا من سماه الله تعالى منعما ، ولا يجب شكر منعم إلا بعد أن يوجب الله تعالى شكره فحينئذ يجب وإلّا فلا ، ويكون حينئذ من يشكره عاصيا فاسقا أتى كبيرة لخلافه أمر الله تعالى بذلك فقط ، ولا فرق بين تولّدنا من مني أبوينا وبين تولدنا من التراب الأرضي ، ولا خلاف في أنه لا يلزمنا برّ التراب ولا له علينا حق ، ليس ذلك إلا لأن الله تعالى لم يجعل له علينا حقا ، وقد يرضع الصغيرة شاة فلا يجب عليه حق لأن الله تعالى لم يجعله لها وجعله للأبوين وإن كانا كافرين أو مجنونين أو لم يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عنا بلذاتهما ، ليس هاهنا إلا أمر الله تعالى فقط.
وبرهان آخر : أن امرأ لو زنى بامرأة عالما بتحريم ذلك أو غير عالم ، إلا أنه ممن لا يلحق به الولد المخلوق من نطفته النازلة من ذلك الوطء ، فإن بره لا يلزم ذلك الولد أصلا ويلزمه برّ أمه ، لأن الله تعالى أمره بذلك لها ، ولم يأمره بذلك في الذي