ولا يحسن شيء ولا يقبح شيء إلا ما أوجبه الله تعالى في الدين ، أو حسّنه الله في الدين ، أو قبّحه الله في الدين فقط. وبالله تعالى نتأيد.
وقال بعضهم : الكذب قبيح على كل حال.
قال أبو محمد : وهذا كالأول ، وقد أجمعوا معنا على بطلان هذا القول ، وعلى تحسين الكذب في مواضع خمسة إذ حسّنه الله تعالى ، وذلك نحو إنسان مستتر من إمام ظالم يظلمه ويطلبه ، فسأل ذلك الظالم هذا الذي استتر عنده المطلوب وسأل أيضا كل من عنده خبره وعن ماله ، فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه إن صدقه ودلّه على موضعه وعلى ماله فإنه عاص لله عزوجل ، فاسق ظالم فاعل فعلا قبيحا ، وأنه لو كذبه وقال له لا أدري مكانه ولا مكان ماله فإنه مأجور محسن فاعل فعلا حسنا ، وكذلك كذب الرجل لامرأته فيما يستجرّ به مودتها وحسن صحبتها ، والكذب في حرب المشركين فيما يوجد به السبيل إلى إهلاكهم ويخلص المسلمين منهم ، فصح أنه إنما قبح الكذب حيث قبحه الله عزوجل ، ولو لا ذلك ما كان قبيحا بالعقل أصلا ، إذ ما وجب بضرورة العقل فمحال أن يستحيل في هذا العالم البتة عما رتبه الله عزوجل في وجود العقل إياه كذلك ، فصح كذبهم على المعقول.
وقال بعضهم : الظلم قبيح.
قال أبو محمد : وهذا كالأول ، ونسألهم : ما معنى الظلم؟ فلا يجدون إلا أن يقولوا : إنه قتل الناس وأخذ أموالهم وأذاهم ، وقتل المرء نفسه أو التشويه بها ، أو إباحة حرمة الناس ينكحونهن ، وكل هذا فليس شيء منه قبيحا لعينه ، وقد أباح الله عزوجل أخذ أموال قوم بخراسان من أجل أنّ ابن عمهم قتل بالأندلس رجلا خطأ لم يرد قتله ، لكن رمى صيدا مباحا له ، أو رمى كافرا في الحرب فصادف المسلم السهم وهو خارج من خلف جبل فمات ، ووجدناه تعالى قد أباح دم من زنى وهو محصن ولم يطأ امرأة قط إلا زوجة له عجوزا شوهاء سوداء ، وطئها مرة ثم ماتت ، ولا يجد من أين ينكح ولا من أين يتسرى ، وهو شاب محتاج إلى النساء ، وحرّم دم شيخ زنى وله مائة جارية كالنجوم حسنا ، إلا أنه لم تكن له قط زوجة.
وأما قتل المرء نفسه فقد حسّن الله تعالى تعريض المرء نفسه للقتل في سبيل الله عزوجل وصدمة الجموع التي يوقن أنه مقتول في فعله ذلك ، وقد أمر الله عزوجل من قبلنا بقتل نفسه ، قال تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة : ٥٤]. ولو أمرنا عزوجل بمثل ذلك لكان