قبيح فيما بيننا ، فقال قائل منهم : إن هذا قد يحسن فيما بيننا ، وذلك أن يكون المرء يريد أن يقرب عند صديقه معصية عبده له فيأمره وهو يدري أنه لا يطيعه فإن نهيه له حسن.
قال أبو محمد : وهذا كالأول ولا فرق ، ولم نسألهم عمن لم يقدر على تعريف صديقه معصية غلامه له إلا بتكليفه أمامه ما لا يطيعه فيه ، ولا عمن لا يقدر على منع العاصي له بأكثر من النهي ، وإنما نسألهم عمن لا منفعة له في أن يعلم زيد معصية غلامه له ، وعمن يقدر على أن يعرف زيدا بذلك ويقرره عنده بغير أن يأمر من لا يطيعه ، وعمن يقدر على منعه من المعصية فلا يفعل ذلك ، إلا أن يعجزوا ربهم كما ذكرنا ، فهذا مع أنه كفر فهو أيضا كذب ظاهر ، لأنه تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه (١) ، فتقرر هذا عندنا تقررا لو رأينا ذلك عيانا ما زادنا علما بصحته ، وكذلك قد شاهدنا قوما آخرين أرادوا ضروبا من المعاصي فحال الله تعالى بينهم وبينها بضروب من الحوائل ، وأطلق آخرين ولم يحل بينهم وبينها بل قوى الدواعي لها ورفع الموانع عنها جملة حتى ارتكبوها ، فلاح كذب المعتزلة وعظيم إقدامهم على الافتراء على الله تعالى وشدة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وقوّة جهلهم وتناقضهم. نعوذ بالله من الخذلان.
ثم بعد هذا كله فأي منفعة لنا في تعريفنا أن فرعون يعصي ولا يؤمن ، وما الذي ضرّ الأطفال إذا ماتوا قبل أن يعرفوا سرّ من أطاع ومن عصى.
ونسألهم أيضا عمن أعطى آخر سيوفا وخناجر وعتلا (٢) للنقب ، وكل ذلك يصلح للجهاد ولقطع الطريق والتلصص ، وهو يدري أنه لا يستعمل شيئا من ذلك في الجهاد إلا في قطع الطريق والتلصص ، وعمن مكن آخر من خمر وامرأة عاهرة وبغاء ، وأخلى له منزلا مع كل ذلك ، أليس عابثا ظالما بلا خلاف ..؟!! فلا بد من نعم ، ونحن وهم نعلم أن الله عزوجل وهب لجميع الناس القوى التي بها عصوا وهو يدري أنهم يعصونه بها ، وخلق الخمر وبثها بين أيديهم ولم يحل بينهم وبينها ، وليس ظالما ولا عابثا ، فإن عجزوه تعالى عن المنع من ذلك بلغوا الغاية من الكفر وإن من عجز عن منع الخمر من شاربها وهو يقدر على ذلك لفي غاية الضعف والمهانة ، أو مريد لكون ذلك كما شاء لا معقب لحكمه ، وهذا قولنا لا قولهم.
__________________
(١) في قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الآية ٢٨ من سورة الأنعام.
(٢) العتل : جمع عتلة ، وهي عمود قصير من الحديد له رأس عريض يهدم به الحائط ويقلع به الشجر والحجر (المعجم الوسيط : ص ٥٨٣).