قال أبو محمد : فانقطعوا عند هذه ولم يكن لهم جواب إلا أن بعضهم قال : إنما قبح ذلك منا لجهلنا بالمصالح ولعجزنا عن التعويض ، ولأن ذلك وهذا محظور علينا ، ولو أن امرأ له منا عبيد وقد صح عنده بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام لا يؤمنون أبدا ، فإن كسوتهم وإطعامهم مباح له.
قال أبو محمد : وهذا عليهم لا لهم وإقرار منهم بأنه إنما قبح ذلك منا لأنه محرم علينا ، وكذلك كسوة العبيد الذين يوقن أنهم لا يؤمنون ، وإنما حسن ذلك لأننا مأمورون بالإحسان إليهم وإن كانوا كفارا ، ولو فعلنا ذلك بأهل دار الحرب لكنا عصاة لأننا نهينا عن ذلك ، ليس هاهنا شيء يقبح ولا يحسن إلا ما أمر الله تعالى فقط ، وأما قولهم إن ذلك قبح منا لجهلنا بالمصالح فليقنعوا بهذا ممن أجابهم بهذا بعينه في الفرق بين حسن تكليف الله تعالى ما لا يطاق ، وتعذيبه عليه منه وقبح ذلك منا ، وأنه إنما قبح منا لجهلنا بالمصالح.
قال أبو محمد : وأم نحن فكلا الجوابين عندنا فاسد ولا مصلحة فيما أدى إلى النار والخلود فيها بلا نهاية ، ولكننا نقول : قبح منا ما نهانا الله عنه وحسن منا ما أمرنا به ، وكل ما فعله ربنا تعالى الذي لا آمر فوقه فهو عدل وحسن ، وبالله تعالى التوفيق.
وسألهم أصحابنا فقالوا : إن المعهود بيننا أن الحكيم لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة ، ومن فعل لغير ذلك فهو سفيه ، والباري تعالى يفعل لغير اجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة وهو حكيم.
فقالت طائفة من المعتزلة : إن الباري تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم.
وقالت طائفة منهم : لم يكن الحكيم فيما بيننا حكيما لأنه يفعل لاجتلاب المنافع أو دفع المضار ، لأنه قد يفعل ذلك كل ملتذ وكل متشفّ وإن لم يكن حكيما ، وإنما سمي الحكيم حكيما لإحكامه عمله.
قال أبو محمد : وكل هذا ليس بشيء لأن من الحيوان ما يحكم عمله مثل الخطاف والعنكبوت ، والنحل ودود والقز ، ولا يسمى شيء من ذلك حكيما ، ولكن إنما سمي الحكيم حكيما على الحقيقة لالتزامه الفضائل واجتنابه الرذائل فهذا هو العقل والحكمة المسمى فاعله حكيما عاقلا ، وهكذا هو في الشريعة ، لأن جميع الفضائل إنما هي طاعات لله عزوجل ، والرذائل إنما هي معاصيه ، فلا حكيم إلا من أطاع الله عزوجل واجتنب معاصيه ، وعمل ما أمره ربه عزوجل ، وليس من أجل هذا يسمى الباري