النعيم بعد الإيلام فلا شك في أنه قادر على ذلك المقدار نفسه دون إيلام يتقدمه ، ليس في العقل غير هذا أصلا ، إذ ليس هاهنا منزلة زائدة في القدرة ولا فعلان مختلفان ؛ وإنما هو عطاء واحد لشيء واحد في كلا الوجهين.
وإن قالوا إنه قادر على ذلك فقد وجب العبث على أصولهم ، أفكان قادرا على أن يعطيهم دون إيلام ما لم يعطهم إلا بعد غاية الإيلام؟
والجواب الثاني : أنا نريهم صبيانا وحيوانا أماتهم في خير دون إيلام ، وهذه محاباة وظلم للمؤلم منهم.
فقالوا : إن المؤلم يزداد في نعيمه لأجل إيلامه.
فقلنا لهم : فهذه محاباة بزيادة النعيم للمؤلم ، فهلّا آلم الجميع ليسوي بينهم في النعيم؟ أو هلّا سوى بينهم في النعيم بأن لا يؤلم منهم أحدا؟ وهذا ما لا انفكاك منه البتة.
وقال بعضهم : فعل ذلك ليعظ بهم غيرهم.
قال أبو محمد : وهذا غاية الجور بيننا ، ولا عبث أعظم من أن يعذب إنسان لا ذنب له ليوعظ بذلك آخرون مذنبون وغير مذنبين ، والله تعالى قد أنكر هذا بقوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام : ١٦٤].
فقد انتفى عن الله عزوجل هذا الظلم حقا ، ولقد كان على أصولهم الفاسدة تعذيبه الطغاة وإيلامه البغاة بذلك غيرهم أدخل في العدل والحكمة من أن يؤلم طفلا أو حيوانا لا ذنب لهما ليعظ بذلك آخرين بل لعل هذا الوجه قد صار سببا إلى كفر كثير من الناس.
وأجاب بعضهم في ذلك بأن قال : إنما فعل عزوجل ذلك بالأطفال ليأجر آباءهم.
قال أبو محمد : وهذا كالذي قبله في الجور سواء بسواء أن يؤذي من لا ذنب له ليأجر بذلك مذنبا أو غير مذنب ، حاشا لله من هذا. إلا أن في هذا مرية من التناقض ، لأن هذا التعليل ينقض عليهم في أولاد الكفار وأولاد الزنى ممن قد ماتت أمه ، وفي اليتامى فقد فقدوا آباءهم وأمهاتهم ، وربّ طفل قد قتل الكفار أو الفساق أباه وأمه وترك هو بدار مضيعة حتى مات هزلا أو أكلته السباع ، فليت شعري من وعظ بهذا ، أو من أجر به؟ مع أن هذا مما لم يجدوه يحسن بيننا البتة بوجه من الوجوه يعني أن يؤذى إنسان لا ذنب له لينتفع بذلك آخرون ، وهم يقولون إن الله تعالى فعل هذا فكان حسنا وحكمة. ولجأ بعضهم إلى أن قال إن لله عزوجل في هذا سرّا من الحكمة والعدل نوقن به وإن كنا لا نعلم لم هو؟ ولا كيف هو؟