فليس لهم عليه غير ذلك ولا يلزمه أكثر من ذلك فعارضهم أصحاب الأصلح بأن قالوا إن الاختيار هو ما يمكن فعله ويمكن تركه ، فلو كان الكفار عند إتيان الله تعالى لتلك الألطاف يختارون الإيمان لأمكن أن يفعلوه وأن لا يفعلوه أيضا ، فعادت الحال إلى ما هي عليه إلا أن يقولوا إنهم كانوا يؤمنون ولا بدّ فهذا اضطرار من الله تعالى لهم إلى الإيمان لا اختيار.
وقالوا : نحن لا ننكر هذا بل الله تعالى قادر على أن يضطرهم إلى الإيمان كما قال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [سورة الأنعام : ١٥٨].
قالوا : فالذي فعل تعالى بهم أفضل وأصلح.
قال أبو محمد : وهذا لازم لمن لم يقل إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لزوما لا ينفكون عنه. وأما نحن فلا يلزمنا ، وإنما سألناهم هل الله تعالى قادر على أن يأتي الكفار بألطاف يكون منهم الإيمان عندها باختيار ولا بدّ ويثيبهم على ذلك أتم ثواب يثيبه عبدا من عباده أم لا؟
فقالوا : لا.
قال أبو محمد : كأن أصحاب الأصلح عمي عن العالم أو كأنهم إذا حضروا فيه سلبت عقولهم وطمست حواسهم وصدق الله فقد نبه على مثل هذا ، يقول تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) [سورة الأعراف : ١٧٩].
أترى هؤلاء القوم ما شاهدوا أن الله عزوجل منع الأموال قوما وأعطاها آخرين ونبأ قوم وأرسلهم إلى عباده ، وخلق آخرين في أقاصي أرض الزنج يعبدون الأوثان وأمات قوما من أوليائه ومن أعدائه عطشا وعنده مجاديح (١) السموات وسقى آخرين الماء العذب أما هذه محاباة ظاهرة فإن قالوا إن كلّ ما فعل من ذلك فهو أصلح بمن فعله به سألناهم عن إماتته تعالى الكفار وهم يصيرون إلى النار وإعطائه تعالى قوما مالا ورئاسة فبطروا وهلكوا وكانوا مع القلة والخمول صالحين وأفقر أقواما ما فسرقوا وقتلوا
__________________
(١) مجاديح السماء : أنواؤها ، يقال : أرسلت السماء مجاديحها. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه خرج إلى الاستسقاء فصعد المنبر فلم يزد على الاستغفار حتى نزل ، فقيل له : إنك لم تستسق! فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء. انظر لسان العرب (٢ / ٤٢١ ـ مادة جدح).