قلنا لهم : وهل المحاباة والجور إلا أن يعرّض قوم للمعاطب ويبقيهم حتى يكفروا فيخلدوا في النار ليوعظ بهم قوم آخرون خلقوا في الجنة والرفاهية سرمدا أبدا لا بد ..؟ وهل عين الظلم إلا هذا فيما بيننا على أصول المعتزلة؟ وكمن يقول من الطغاة قتل الثلث في صلاح الثلثين صلاح وهل في الشاهد عبث وسفه أعظم من عبث من يقول لآخر : هات أضربك بالسياط وأرديك من جبل وأصفع في قفاك وأنتف سبالك (١) وأمشي بك في طريق ذات شوك دون راحة في ذلك ولا منفعة لكن لأعطيك بعد ذلك ملكا عظيما ...؟ ولعلك في خلال ضربي إياك أن تتقزز فتقع في بئر منتنة لا تخرج منها أبدا؟ فأي مصلحة عند ذوي عقل في هذه الحال لا سيما وهو قادر على أن يعطيه ذلك الملك دون أن يعرضه لشيء من هذا البلاء فهذه صفة الله عزوجل عند المعتزلة لا يستحيون من أن يصفوا أنفسهم بأن يصفوا الله تعالى بالعدل والحكمة.
قال أبو محمد : وأما نحن فنقول : لو أن الله تعالى أخبرنا أنه يفعل هذا كله بعينه ما أنكرناه ولعلمنا أنه منه تعالى حق وعدل وحكمة.
قال أبو محمد : ومن العجب أن يكون الله تعالى يخلقنا يوم القيامة خلقا لا نجوع فيه أبدا ولا نعطش ولا نبول ولا نمرض ولا نموت وينزع ما في صدورنا من غلّ ثم لا يقدر على أن يخلقنا فيها ولا على أن يخلقنا خلقا نلتذّ معه بابتدائنا فيها كالتذاذنا بدخولها بعد طول النكد فهل يفرق بين شيء من هذا إلا من لا عقل له أو مستخف بالباري تعالى وبالدين.؟
وأما قولهم : لو خلقنا الله تعالى في الجنة لكنا غير مستحقين لذلك النعيم ، فإنا نقول لهم : أخبرونا عن الأعمال التي استحققتم بها الجنة عند أنفسكم؟ أفبضرورة العقل علمتم أن من عملها فقد استحق الجنة دينا واجبا على ربه تعالى أم لم تعلموا ذلك ولا وجب ذلك إلا حتى أعلمنا الله عزوجل أنه يفعل وجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال ...؟
فإن قالوا : بالعقل عرفنا استحقاق الجنة على هذه الأعمال كابروا وكذبوا على العقل وكفروا لأنهم بهذا القول يوجبون الاستغناء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام. ولزمهم أن الله تعالى لم يجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال لكن وجب ذلك عليه حتما لا باختياره ولا بأنه لو شاء غير ذلك لكان له ، وهذا كفر مجرد. وأيضا فإن
__________________
(١) السبال : جمع سبلة ، وهي طرف الشارب من الشعر (المعجم الوسيط : ص ٤١٥).