شريعة موسى عليهالسلام في السبت وتحريم الشحوم وغير ذلك فقد كانت الجنة جزاء على العمل بها ، ثم صارت الآن جهنم جزاء على العمل بها ، فهل هاهنا إلا أن الله تعالى أراد ذلك فقط؟ ولو لم يرد ذلك لم يجب من ذلك شيء. فإن قالوا : بل ما علمنا استحقاق الجنة بذلك إلا بخبر الله تعالى أنه حكم بذلك فقط.
قيل لهم : فقد كان الله تعالى قادرا على أن يخبرنا أنه جعل الجنة حقا لنا ويخترعنا فيها كما فعل بالملائكة وحور العين. وأيضا فقد كذبوا في دعواهم استحقاق الجنة بأعمالهم فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من أحد ينجيه عمله أو يدخله الجنّة عمله» قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قالك «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه». (١) أو كلاما هذا معناه وأيضا فبضرورة العقل ندري أن ما زاد على المماثلة في الجزاء فيما بيننا فإنه تفضل مجرد في الإحسان وجور في الإساءة هذا حكم المعهود في العقل فعلى أصول المعتزلة يلزمهم أن بقاء أحدنا في الجنة أو في النار مثل زمن إحسانه أو إساءته جزاء على ما سلف منه فضل مجرد وعقاب زائد على مقدار الجرم وقد فعله الله عزوجل بلا شك وهو عدل منه وحكمة وحق.
قال أبو محمد : وأمّا قولهم إنّ دخول الجنة على وجه الجزاء على العمل أعلى درجة وأسنى رتبة من دخولها بالتفضل المجرد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق : هذا خطأ محض لأننا قد علمنا أنّ هذا الحكم إنما يقع من الأكفاء والمتماثلين وأما الله تعالى فليس له كفوا أحد ، ومن كان عبد لآخر فإن إقبال السيّد عليه بالتفضل عليه المجرد والاختصاص والمحاباة أسنى له وأعلى وأشرف لرتبته وأرفع لدرجته من أن لا يعطيه شيئا إلا بمقدار ما استحقه لخدمته وتسخيره إياه وهذا ما لا ينكره إلا معاند فكيف وليس لأحد على الله حق مبتدأ وكل ما وهبه الله تعالى لأحد من أنبيائه وملائكته عليهمالسلام وكل ما أخبر تعالى أنه أوجبه وكتبه على نفسه وجعله حقا لعباده فكل ذلك تفضل مجرد من الله عزوجل واختصاص مبتدأ لو لم ينعم به عزوجل لم يجب عليه شيء منه لا يقول غير هذا إلا مدخول الدين فاسد العقل.
__________________
(١) رواه البخاري في الرقاق باب ١٨ ، والمرضى باب ١٩. ومسلم في المنافقين (حديث ٧١ ـ ٧٣ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٨) وابن ماجة في الزهد باب ٢٠. والدارمي في الرقاق باب ٢٤. وأحمد في المسند (٢ / ٢٣٥ ، ٢٥٦ ، ٢٦٤ ، ٣١٩ ، ٣٢٦ ، ٣٤٤ ، ٣٨٦ ، ٣٩٠ ، ٤٥٢ ، ٤٦٦ ، ٤٦٩ ، ٤٧٣ ، ٤٨٢ ، ٤٨٨ ، ٤٩٥ ، ٥٠٢ ، ٥٠٩ ، ٥١٤ ، ٥١٩ ، ٥٢٤ ، ٥٣٧ ، ٣ / ٥٢ ، ٣٣٧ ، ٣٦٢ ، ٦ / ١٢٥).