فلو لم يأت في هذا المعنى غير هذه الآية لكانت حجتهم ظاهرة لكن الذي أنزل هذه الآية هو القائل : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) (١) [سورة التوبة آية رقم ٣١].
وقال تعالى : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة المائدة : ١١٦]. وقال تعالى عنهم أنهم قالوا : إنّ الله ثالث ثلاثة ، وهذا كله تشريك ظاهر لا خفاء فيه ، فإذ قد صح الشرك والتشريك في القرآن من اليهود والنصارى فقد صح أنهم مشركون ، وأن الشرك والكفر اسمان لمعنى واحد ، وقد قلنا إن التسمية لله عزوجل لا لنا ، فإذ ذلك كذلك فقد صح أن قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [سورة البينة : ١]. كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [سورة النساء : ١٤٠].
ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن المنافقين كفار ، وكقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [سورة البقرة : ٩٨] ولا خلاف في أن جبريل وميكائيل من جملة الملائكة وكقوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [سورة الرحمن : ٦٨] والرمان : من الفاكهة ، والقرآن نزل بلغة العرب ، والعرب تعيد الشيء باسمه ، وإن كانت قد أجملت ذكره تأكيدا لأمره ، فبطل تعلق من تعلق بتفريق الله تعالى بين الكفار والمشركين في اللفظ وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاجهم بأن لفظ الشرك مأخوذ من الشريك ، فقد قلنا إن التسمية لله عزوجل لا لأحد دونه ، وله تعالى أن يوقع أي اسم شاء على أي مسمى شاء. برهان ذلك أن من أشرك بين عبدين له في عمل ما ، أو بين اثنين في هبة وهبها لهما ، فإنه لا يطلق عليه اسم مشرك ولا يحل أن يقال إن فلانا أشرك ، ولا أن عمله شرك ، فصح أنها لفظة منقولة أيضا عن موضوعها في اللغة كما أن الكفر لفظة منقوله أيضا عن موضوعها في اللغة إلى ما أوقعها الله تعالى عليه ، والتعجب من أهل هذه المقالة وقولهم إن النصارى ليسوا مشركين وشركهم أظهر وأشهر من أن يجهله أحد ، لأنهم يقولون كلهم بعبادة الأب ، والابن ، وروح القدس ، وأن المسيح إله حق ، ثم يجعلون البراهمة مشركين ، وهم لا يقرون إلا بالله وحده ، ولقد كان يلزم أهل هذه المقالة أن لا يجعلوا كافرا إلا من جحد الله تعالى فقط.
__________________
(١) وتتمة الآية ، وبها يستدلّ على أنهم مشركون : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)