فبيقين ندري أن الفسق ليس إيمانا ، فمن فسق فلم يؤمن بذلك العمل الذي هو الفسق ولم يقل عزوجل إنه لا يؤمن في شيء من سائر أعماله ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) [سورة الحجرات : ١٥].
فهؤلاء قد شهد الله تعالى لهم بالإيمان فإذا وقع منهم فسق ليس إيمانا فمن المحال أن يبطل فسقه إيمانه في سائر أعماله ، وأن يبطل إيمانه في سائر الأعمال فسقه ، بل شهادة الله تعالى له بالإيمان في جهاده حق ، وبأنه لم يؤمن في فسقه حق. وأيضا فإن الله عزوجل قال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [سورة المائدة : ٤٤] (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [سورة المائدة : ٤٧] (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة المائدة : ٤٥].
فيلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص وظالم وفاسق ، لأن كل عامل بالمعصية فلم يحكم بما أنزل الله.
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما نحن فنقول إن كل من كفر فهو فاسق ظالم عاصي ، وليس كل فاسق ظالم عاص كافرا بل قد يكون مؤمنا وبالله تعالى التوفيق ، وقد قال تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [سورة الرعد : ٦] فبعض الظلم مغفور بنص القرآن.
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقالوا قد وجب لعن الفساق والظالمين ، وقال تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [سورة هود : ١٨]. والمؤمن يجب ولايته والدعاء له بالرحمة ، وقد لعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم السارق (١) ومن لعن أباه ومن غيّر منار الأرض ، (٢) فيلزمكم أن تدعو على المرء الواحد باللعنة والرحمة والمغفرة معا.
__________________
(١) رواه من حديث أبي هريرة مسلم في الحدود (حديث ٧) وابن ماجة في الحدود باب ٢٢ ، والنسائي في قطع السارق باب ١ ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٥٣). ولفظ مسلم : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده».
(٢) رواه مسلم في الأضاحي (حديث ٤٣ ـ ٤٥) والنسائي في الضحايا باب ٣٤ ، وأحمد في المسند (١ / ١٠٨ ، ١١٨ ، ١٥٢ ، ٣٠٩ ، ٣١٧). ولفظ مسلم (الأضاحي ، حديث رقم ٤٣) : عن عامر بن واثلة قال : كنت عند علي بن أبي طالب ، فأتاه رجل فقال : ما كان النبي صلىاللهعليهوسلم يسرّ إليك؟ قال : فغضب وقال : ما كان النبي صلىاللهعليهوسلم يسرّ إليّ شيئا يكتمه الناس ، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. قال : فقال : ما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال : قال : «لعن الله من لعن والده ، ولعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من آوى محدثا ، ولعن الله من غيّر منار الأرض».