القرآن لا يخلو أمرهما من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكونا جنّيين من أحياء الجن ، كما روينا عن خالد بن أبي عمران وغيره ، وموضعهما حينئذ في النحو بدل من الشياطين كأنه قال : ولكن الشياطين كفروا هاروت وماروت ويكون قوله : ما أنزل على الملكين نعتا بمعنى لم ينزل على الملكين ببابل ويتم الكلام هنا.
وإما أن يكونا ملكين أنزل الله عزوجل عليهما شريعة حق ثم نسخها فصارت كفرا كما فعل بشريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فتمادى الشياطين على تعليمهما وهي بعد كفر ، كأنه قال تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. ثم ذكر عزوجل ما كان يفعله ذلك الملكان فقال تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [سورة البقرة : ١٠٢].
قال أبو محمد رضي الله عنه : فقول الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر قول صحيح ونهي عن المنكر ، وأما الفتنة ، فقد تكون ضلالا وتكون هدى ، قال الله عزوجل حاكيا عن موسى عليهالسلام أنه قال لربه : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف : ١٥٥]. فصدق الله عزوجل في قوله ، وصح أنه يهدي بالفتنة من يشاء ويضل بها من يشاء. وقال تعالى : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [سورة الأنفال : ٢٨].
وليس كل أحد يضل بماله وولده ، فقد كان للنبي صلىاللهعليهوسلم أولاد ومال ، وكذلك لكثير من الرسل عليهمالسلام ، وقال تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [سورة المدثر : ٣١]. وقال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [سورة الجن : ١٧]. فهذه سقيا الماء التي هي جزاء على الاستقامة قد سماها الله تعالى فتنة ، فصح أن من الفتنة خيرا وهدى ، ومنها ضلالا وكفرا ، والملكان المذكوران كذلك كانا فتنة يهتدي من اتبع أمرهما في أن لا يكفر ، ويضل من عصاهما في ذلك ، وقوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) حق لأن أتباع رسل الله عليهم الصلاة والسلام هذه صفته يؤمن الزوج فيفرق إيمانه بينه وبين امرأته التي لم تؤمن ، وتؤمن هي فيفرق إيمانها بينها وبين زوجها الذي