والصحيح من ذلك أنه عليهالسلام إنما قال ذلك موبخا لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام ولا فرق ، لأنهم كانوا على دين الصابئين ، يعبدون الكواكب ، ويصورون الأصنام على صورها ، وأسمائها ، في هياكلهم ، ويعدون لها الأعياد ، ويذبحون لها الذبائح ، ويقربون لها القرب والقرابين والدخن (١) ، ويقولون : إنها تعقل وتدبر ، وتضر وتنفع ، ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة ، فوبخهم الخليل عليهالسلام على ذلك ، وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها ، كما قال تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [سورة المطففين آية رقم ٣٤] فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام المسخرة الجمادية وبين لهم أنهم مخطئون ، وأنها مدبرة تنتقل في الأماكن ، ومعاذ الله أن يكون الخليل عليهالسلام أشرك قط بربه ، أو شك في أن الفلك بكل ما فيه مخلوق ، وبرهان قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك ، بل صدقه تعالى بقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [سورة الأنعام آية رقم ٨٣].
فصح أن هذا بخلاف ما وقع لآدم وغيره بل وافق مراد الله عزوجل بما قال من ذلك وبما فعل.
وأما قوله عليهالسلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة آية رقم ٢٦٠].
فلم يقرره ربنا عزوجل وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله عليهالسلام تعالى الله عن ذلك ، ولكن تقريرا للإيمان في قلبه ، وإن لم ير كيفية إحياء الموتى ، فأخبر عليهالسلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط ويعتبر بذلك ، وما شك إبراهيم عليهالسلام في أن الله تعالى يحيي الموتى ، وإنما أراد أن يرى الهيئة ، كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل ، والتمساح ، والكسوف ، وزيادة النهر ، والخليفة ، ثم يرغب من لم ير ذلك منا في أن يرى كل ذلك ، ولا يشك في أنه حق لكن ليرى العجب الذي يتمثله في نفسه ولم تقع عليه حاسة بصره قطّ ، وأما ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم من قوله : «نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم». (٢)
__________________
(١) الدّخن : جمع دخنة ، وهو ما يتبخّر به من الطيب (المعجم الوسيط : ص ٢٧٦).
(٢) لفظ الحديث كما رواه البخاري في أحاديث الأنبياء ، باب ١١ (حديث رقم ٣٣٧٢) عن أبي هريرة : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال : ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي. ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن