قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد :
أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه ، وليعود إخوته إليه ، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه ، وهم في مملكة أخرى ، وحيث لا طاعة ليوسف عليهالسلام ، ولا لملك مصر هنالك ، وليكون ذلك سببا لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ، ولا سبيل إلى أن يظن برسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه ، وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا ، ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه ، فكيف برسول الله صلىاللهعليهوسلم؟؟؟ وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ، ولم يفعل ، فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة امرئ ودين آخر وأمة أخرى كالذي بيننا اليوم وبين من يصافينا من بلاد النصارى كغالث وغيرها أو كصحراء البربر فلم يكن عند يوسف عليهالسلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ، ولا حي هو أو ميت ، أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ، ولا وجد أحدا يثق به فيرسل إليه للاختلاف الذي ذكرنا ، وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد ، وملة واحدة ، ولسانا واحدا وأمة واحدة ، والطريق سابل ، والتجار ذاهبون وراجعون ، والرفاق سائرة ومقبلة ، والبرد (١) ناهضة وراجعة ، فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ولكن كما قدمنا.
ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره ، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه ، وانقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض وامتيارهم من عنده ، فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب فأتوه صاغرين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه ، ورب رئيس جليل شاهدنا من أبناء البشاكين والإفرنج لو قدر على أن يستجلب أبويه لكان أشد الناس بدارا إلى ذلك ولكن الأمر تعذر عليهم تعذرا أخرجه عن الإمكان إلى الامتناع فهذا كان أمر يوسف عليهالسلام.
وأما قول يوسف لإخوته : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [سورة يوسف : ٧٠] وهم لم يسرقوا الصواع ، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم ، فقد صدق عليهالسلام
__________________
(١) البرد : جمع بريد ، وأصله الدابة التي تحمل الرسائل ، والبريد : الرسول ، والرسائل (المعجم الوسيط : ص ٤٨).