فكذّب الله عزوجل كل من قال : إن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى الأنبياء بالحق ، من عند الله عزوجل فقط. وقال عزوجل : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) الآية [سورة الفرقان : ٢١ ، ٢٢].
فرفع الله تعالى الإشكال بهذا النص في هذه المسألة ، وقرن عزوجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عزوجل فيهما ، فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع البتة لا يجوز ، وأن من قال ذلك فقد قال حجرا محجورا أي ممتنعا وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر ، وقد استعظم الله عزوجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس ، وسمى هذا الفعل استكبارا وعتوّا ، وأخبر عزوجل أننا لا نرى الملائكة أبدا إلّا يوم القيامة فقط ، وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين.
فإذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما كما قدمنا قل : إما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن «ما» في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) [سورة البقرة : ١٠٢] نفي لأن ينزل عليهما ، ويكون هاروت وماروت حينئذ بدلا من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ، ويكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الجن كانتا تعلمان الناس السحر.
وقد روينا هذا القول عن خالد بن أبي عمران وغيره ، وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام. وكان يقول : إن هاروت وماروت علجان (١) من أهل بابل. إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما لم يكونا ملكين. وقد اعترض هاهنا بعض الجهال فقال لي : أبلغ من رفق الشياطين أن يقولوا للذي يتعلم السحر لا تكفر؟ فقلت له : هذا الاعتراض يبطل من ثلاث جهات : أحدها أن نقول لك : وما المانع من أن يقول الشياطين ذلك ، إما سخريا وإما لما شاء الله تعالى؟ فلا سبيل لك إلى دليل مانع من هذا.
والثاني : أنه قد نص الله عزوجل على أن الشيطان قال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) فقال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) إلى قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [سورة الأنفال :]
__________________
(١) العلج : كل جاف شديد من الرجال (المعجم الوسيط : ص ٦٢١).