يعرف باستدلال فإنما هو أخذ تقليدا إذ لا وساطة بينهما ، فإنهم شغبوا في هذا المكان ووثبوا فتركوا التقسيم الصحيح ، ونعم : إن التقليد لا يحل البتة وإنما التقليد أخذ المرء قول من دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم ممن لم يأمرنا الله عزوجل باتباعه قط ، ولا بأخذ قوله ، بل حرم علينا ذلك ونهانا عنه.
وأما أخذ المرء قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي افترض علينا طاعته وألزمنا اتباعه وتصديقه وحذرنا عن مخالفة أمره وتوعدنا على ذلك أشد الوعيد ، فليس تقليدا ، وما سماه أحد قط من أهل الحق تقليدا بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة لله عزوجل وأداء للمفترض ، فموه هؤلاء القوم بأن أطلقوا على الحق الذي هو اتباع الحق اسم التقليد الذي هو باطل ، وبرهان ما ذكرنا أن امرأ لو اتبع أحدا دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قول قاله لأن فلانا قاله فقط ، واعتقد أنه لو لم يقل ذلك الفلان ذلك القول لم يقل به هو أيضا ، فإن فاعل هذا القول مقلد مخطئ عاص لله تعالى ولرسوله ، ظالم آثم. سواء كان قد وافق قوله ذلك الحق الذي قاله الله ورسوله أو خالفه ، وإنما فسق لأنه اتبع من لم يؤمر باتباعه ، وفعل غير ما أمره الله عزوجل أن يفعله ، ولو أن امرأ اتبع قول الله عزوجل وقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم لكان مطيعا محسنا مأجورا غير مقلد ، وسواء وافق الحق أو وهم فأخطأ ، وإنما ذكرنا هذا لنبيين أن الذي أمرنا به وافترض علينا هو اتباع ما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقط ، وأن الذي حرم علينا هو اتباع من دونه أو اختراع قول لم يأذن به الله تعالى قطّ ، وقد صح أن التقليد باطل لا يحل ، فمن الباطل الممتنع أن يكون الحق باطلا معا ، والمحسن مسيئا من وجه واحد معا ، فإذ ذلك كذلك فممتنع من أمر الله تعالى باتباعه ، ليس مقلدا ولا فعله تقليدا ، وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه ، فسقط تمويههم بذم التقليد ، وصح أنهم وضعوه في غير موضعه ، وأوقعوا اسم التقليد على ما ليس تقليدا ، وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاجهم بذم الله تعالى اتباع الآباء والكبراء ، فهو مما قلنا آنفا سواء بسواء ، لأن اتباع الآباء والكبراء وكل من دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو من التقليد المحرم ، المذموم فاعله ، فقد قال الله عزوجل : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [سورة الأعراف : ٣] فهذا نص ما قلنا ولله الحمد.
قال أبو محمد : وأما احتجاجهم أنه لا يعرف أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الآباء شيئا أم لا إلّا بالدليل ، وأن كل ما لم يصح بدليل فهو دعوى ، ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما ، وذكرهم قول الله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١] فإن هذا ينقسم قسمين :