فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى البرهان ولا تستقر نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى يسمع الدلائل فهذا فرض عليه طلب الدلائل ، إلا أنه إن مات شاكا أو جاحدا قبل أن يسمع من البرهان ما يثلج صدره فقد مات كافرا ، وهو مخلد في النار بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى رأى المعجزات ، فهذا أيضا لو مات قبل أن يرى المعجزة لمات كافرا بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام ، وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضا عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر.
قال الله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [سورة التحريم : ٦]. فقد افترض الله عزوجل على كل أحد أن يقي نفسه النار.
فهؤلاء قسم وهم الأقل من الناس ، والقسم الثاني من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسكن قلبه إلى الإيمان ، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله عزوجل له وتيسيرا لما خلق له من الخير والحسنى ، فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكلّف استدلال ، وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة ، والنساء ، والتجار ، والصناع ، والأكرة (١) والعباد ، وأصحاب الأئمة الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين.
قال أبو محمد : هم الذين قال الله فيهم : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة الحجرات : ٧ ، ٨].
وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [سورة الأنعام : ١٢٥].
قال أبو محمد : وقد سمى الله عزوجل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم ، وكره إليهم الكفر والمعاصي فضلا منه ونعمة ، وهذا هو خلق الله تعالى للإيمان في قلوبهم ابتداء ، وعلى ألسنتهم ، ولم يذكر الله تعالى في ذلك استدلالا أصلا ، وبالله تعالى التوفيق.
وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم ، لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لم يكفروا هم بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ،
__________________
(١) الأكرة : جمع أكّار ، وهو الحرّاث (المعجم الوسيط : ص ٢٢).