وأما قولهم : إن الله تعالى لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط فباطل وكذب بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم ، ورضي لهم ذلك وسخط منهم خلافه ثم نسخ كل ذلك وأبطله فرضي منهم أكل الشحوم والعمل في السبت وسخط منهم خلافه وكذلك أحل لنا الخمر ، ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام ، ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان ، والبقاء بلا صلاة ، وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك كما قال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [سورة طه آية رقم ١١٤]. ثم فرض علينا الصلاة والصوم ، وحرم علينا الخمر ، فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان ، وشرب الخمر ، ورضي لنا خلاف ذلك ، وهذا لا ينكره مسلم. ولم يزل الله تعالى عليما أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا وأنه سيرضى منه ، ثم إنه سيحرمه ويسخطه وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة ثم إنه يحله ويرضاه كما علم عزوجل أنه سيحيي من أحياه مدة كذا ثم يميته ، وأنه يعز من أعزه مدة ثم يذله ، وهكذا جميع ما في العالم من آثار صنعه عزوجل لا يخفى ذلك على من له أدنى حس ، وهكذا المؤمن يموت مرتدا ، والكافر يموت مسلما ، فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخط فعل الكافر ما دام كافرا ، ثم إنه يرضى عنه إذا أسلم ، وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم ، وأفعال البر ، ثم إنه يسخط أفعاله إذا ارتد ، أو فسق ، ونص القرآن يشهد بذلك قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [سورة الزمر آية رقم ٧].
فصح يقينا أن الله تعالى يرضى الشكر ، ممن شكره إذا شكره فيما شكره ، ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر ، كيف كان انتقال هذه الأحوال من الإنسان الواحد ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية رقم ٢١٧] فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير حابط ، ومن المحال أن يحبط عمل لم يكن محسوبا قط ، فصح أن عمل المؤمن الذي ارتد ثم مات كافرا أنه كان محسوبا ثم حبط إذ ارتد وكذلك قال الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [سورة الرعد آية رقم ٣٩].
فصح أنه لا يمحو إلا ما كان قد كتبه ومن المحال أن يمحي ما لم يكن مكتوبا وهذا بطلان قولهم يقينا ولله الحمد ، وكذلك نص قوله تعالى (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [سورة الفرقان آية رقم ٧٠].