فهذا نص جلي على أنهم لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقينا أن ذلك على الأبد وفي المستأنف أبدا. ومن ادّعى بأن المراد بذلك الماضي فقد كذب ، لأنه لا يجوز أن تحال اللغة فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص آخر جليّ وارد بذلك أو بإجماع متيقن أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولا سبيل في هذه المسألة إلى أحد هذه الوجوه. وكذلك قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) عموم كل إنس وجن أبدا ، لا يجوز تخصيص شيء من ذلك بغير نص ولا إجماع.
قال أبو محمد : ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر ، فلا حجة هاهنا تقوم على الطائفة المذكورة. فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين.
والنحو الثالث : ما المعجز منه؟ أنظمه؟ أم نصه من الإنذار بالغيوب؟ فقال بعض أهل الكلام : إن نظمه ليس معجزا وإنما إعجازه ما فيه من الإخبار بالغيوب ، وقال سائر أهل الإسلام : بل كلا الأمرين ، نظمه وما فيه من الإخبار بالغيوب ، وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو باطل. برهان ذلك قول الله عزوجل (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [سورة البقرة : ٢٣] فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره وأكثر سوره ليس فيها إخبار بغيب فكان من جعل المعجز فيه الإخبار بالغيوب مخالفا نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت هذه الأقاويل الفاسدة والحمد لله رب العالمين.
والنحو الرابع : ما وجه إعجازه؟ فقالت طائفة : وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة.
وقالت طائفة : إنما وجب إعجازه لأن الله تعالى منع الخلق من القدرة على معارضته فقط. فأما الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى رتب البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك ، بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [سورة البقرة : ١٧٩] ونحو هذا ، وموّه بعضهم بأن قال لو كان ما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ.
قال أبو محمد : ما نعلم شغبا غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه ، أما قولهم لو كان كما لو قلنا لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام وكانت الحجة بذلك أبلغ فهذا هو الكلام الغث حقا لوجوه :
أحدها : أنه قول بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله نفسه ، فيقال له بل لو كان