الصحيح الجوارح وبين من لا صحة لجوارحه فرقا لائحا لجوارحه ، لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختارا لها دون مانع ، وأن الذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك جهده لم يفعله أصلا ، ولا بيان أبين من هذا الفرق والمجبر في اللغة هو الذي يقع منه الفعل بخلاف اختياره وقصده ، فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبرا. وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة وموجب أن لنا حولا وقوة ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ولو كان ما ذهبت إليه الجهمية لكان القول «لا حول ولا قوة إلا بالله» لا معنى له ، وكذل قوله تعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [سورة التكوير : ٢٨ ، ٢٩] فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منّا إلا أن يشاء الله تعالى كونها وهذا نص قولنا والحمد لله.
قال أبو محمد : ومن عرف عناصر الأشياء من الواجب والممكن والممتنع أيقن بالفرق بين صحيح الجوارح وغير صحيحها ، لأن الحركة الاختيارية بأول الحس هي غير الاضطرارية ، وأن الفعل الاختياري من ذي الجوارح المعوقة ممتنع وهو من ذي الجوارح الصحيحة ممكن ، وإننا بالضرورة ندري أن المقعد لو رام القيام جهده لما أمكنه ونقطع يقينا أنه لا يقوم ، وأن الصحيح الجوارح لا ندري إذا رأيناه قاعدا أيقوم أم يتكئ أو يتمادى على قعوده ، وكل ذلك ممكن منه. وأمّا من طريق اللغة فإن الإجبار والإكراه والاضطرار والغلبة أسماء مترادفة ولكنها واقعة على معنى واحد لا يختلف وقوع الفعل ممن لا يؤثره ولا يختاره ولا يتوهم منه خلافه البتة. وأما من آثر ما يظهر منه من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إليه هواه فلا يقع عليه اسم إجبار ولا اضطرار ، لكنه مختار والفعل منه مراد متعمّد مقصود ونحو هذه العبارات في هذا المعنى في اللغة العربية التي بها نتفاهم. فإن قال قائل : فلم أبيتم هاهنا من إطلاق لفظة الاضطرار وأطلقتموها في المعارف فقلتم إنها باضطرار ، وكل ذلك عندكم خلق الله في الإنسان؟ فالجواب أن بين الأمرين فرقا بيّنا وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله ، وممكن ذلك منه وليس كذلك الذي عرفه ببرهان ، لأنه لا يتوهم البتة انصرافه عنه ، ولا يمكنه في ذلك أصلا فصح أنه مضطر إليها. وأيضا فقد أثنى الله تعالى على قوم دعوه فقالوا (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [سورة البقرة : ٢٨٦] ، وقد علمنا أن الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ مترادفة كلها واقع على معنى واحد ، وهو صفة ما يمكن منه الفعل باختياره أو تركه باختياره ، ولا شك في أن هؤلاء القوم الذين دعوا هذا الدعاء قد كلفوا شيئا من الطاعات والأعمال ، واجتناب المعاصي ، فلو لا