قال أبو محمد : ويلزمه هذا بعينه في المؤمنين وجميع الملائكة والجن لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر ، والمؤمن إنسان وإيمان ، أو ملك وإيمانه ، أو جنيّ وإيمانه أو كفره.
فعلى قول هذا البائس السخيف لا يجوز أن يقال : إنّ الله عزوجل خلق من الناس ولا الجن ولا الملائكة سعيدا ، بل يكون القول بهذا كذبا وحسبك بهذا القول خلافا للقرآن وللمسلمين.
وقال معمّر (١) والجاحظ : إن أفعال العباد كلّها لا فعل لهم فيها وإنما نسبت إليهم مجازا لظهورها منهم ، وإنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة فقط ، فإنه لا فعل للإنسان غيرها البتة.
قال أبو محمد : ومن تدبّر هذا القول علم أنه أقبح من قول جهم وجميع المجبرة لأنهم جعلوا أفعال العباد اضطرارية طبيعية كفعل النار للإحراق بطبعها ، وفعل الثلج التبريد بطبعه وفعل السقمنيا (٢) في إحداثها الصفراء بطبعها ، وهذا صفة الأموات لا صفة الأحياء المختارين ، وإذا لم يبق على قول هذين الرجلين للإنسان فعل إلا الإرادة فقد وجدنا الإرادة لا يقدر الإنسان على صرفها ولا على إحالتها ولا على تبديلها بوجه من الوجوه ، وإنما يظهر من المرء تبديل كل حركاته وسكونه وأما إرادته فلا حيلة له فيها ، ونحن نجد كل قويّ الآلة من الرجال يحب وطئ كلّ جميلة يسمع بها ، لو لا التقوى ، ويحب النوم عن الصلوات في الليالي القارة (٣) والهواجر الحارّة ، ويحب الأكل في أيام الصوم ، ويحب إمساك ماله عن الزكاة ، وإنما يأتي خلاف ذلك مغالبة لإرادته وقهرا لها وإما صرفا لها ولا سبيل إليه فقد تم الإجبار صحيحا على قول هذين الرجلين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________________
ويقول : لو لا جنونه. وله كتاب «إنكار أن يخلق الناس أفعالهم» وكتاب «تثبيت دلالة الأعراض» وكتاب «إثبات الجزء الذي لا يتجزأ». انظر ترجمته في فهرست ابن النديم (ص ٢١٥) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٥٥١) وطبقات المعتزلة (ص ٧٧).
(١) هو أبو المعتمر معمر بن عمرو ، وقيل : ابن عباد ، البصري السلمي مولاهم العطار المعتزلي. كان يقول : في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ولا لها عند الله عدد ولا مقدار ، وكان يزعم أن الله لم يخلق لونا ولا طولا ولا عرضا ولا عمقا ولا رائحة ولا حسنا ولا قبحا ولا سمعا ولا بصرا ، بل ذلك فعل الأجسام بطباعها. توفي سنة ٢١٥ ه. انظر ترجمته في الفهرست (ص ٢٠٧) وسير الأعلام (١٠ / ٥٤٦) وطبقات المعتزلة (ص ٥٤).
(٢) السقمنيا أو السقمونيا : نبات يستخرج منه دواء مسهل للبطن ومزيل لدوده (المعجم الوسيط : ص ٤٣٧).
(٣) الليالي القارّة : الشديدة البرد.