وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٢ ـ ١٤].
وكان هذا كله في غير تلك الستة الأيام ، فإذ قد جاء النص بأن الله تعالى يخلق بعد تلك الأيام أبدا ، ولا يزال يخلق بعد ناشئة الدنيا ، ثم لا يزال يخلق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أبدا بلا نهاية ، إلا أن عموم خلقه تعالى السموات والأرض وما بينهما باق على كل موجود.
وقال بعضهم : لا نقول إن أعمالنا بين السماء والأرض لأنها غير مماسة للسماء والأرض.
قال أبو محمد : وهذا عين التخليط لأن الله تعالى لم يشترط المماسة في ذلك ، وقد قال تعالى : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة : ١٦٤].
فصح أن السحاب ليست مماسة للسماء ولا للأرض.
فهي إذن على قول هذا الجاهل غير مخلوقة.
ويلزمه أيضا أن يقول بقول معمّر والجاحظ ، في أن الله تعالى لم يخلق الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ، ولا الموت ولا الحياة ، لأن كل هذا غير مماس للسماء ولا للأرض.
قال أبو محمد : فأمّا قول معمر والجاحظ إن كل هذا فعل الطبيعة فغباوة شديدة ، وجهل بالطبيعة ومعنى لفظ الطبيعة إنما هو قوة في الشيء تجري بها كيفياته على ما هي عليه. وبالضرورة نعلم أن تلك القوة عرض لا تعقل ، وكل ما كان مما لا اختيار له من جسم أو عرض كالحجارة وسائر الجمادات فمن نسب إلى ما يظهر أنها أفعاله وهي مخترعة لها فهو في غاية الجهل ، فبالضرورة نعلم أن تلك الأفعال خلق غيرها فيها ولا خالق لها هاهنا إلا الله تعالى خالق الكل ، وهو الله لا إله إلا هو.
قال أبو محمد : ومن بلغ هاهنا فقد كفانا الله تعالى شأنه لمجاهرته بالجهل العظيم والكفر المجرد في موافقته أهل الدّهر في تكذيبه للقرآن ، إذ يقول الله تعالى : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [سورة الملك : ٢].
وقوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [سورة الرعد : ٤]. فأخبر تعالى أن تفاضلها في الطعوم من فعله عزوجل ، نعوذ بالله مما ابتلاهم به ، وأقحمهم فيه.