قال أبو محمد : وبرهان صحة قول من قال بأن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك : أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلّا بنص أو إجماع أو معجزة تظهر ، فالمعجزة ممتنعة هاهنا بلا خلاف ، وكذلك الإجماع وكذلك النص.
وبرهان آخر : وهو أن الذي كلفوا به من معرفة جهة الأفضل ممتنع محال لأن قريشا مفترقون في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس ، إلى أقصى اليمن ، وصحارى البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فما بين ذلك من البلاد ، فمعرفة أسمائهم ممتنع ، فكيف معرفة أحوالهم؟ فكيف معرفة أفضلهم؟.
وبرهان آخر : وهو أنا بالحسّ والمشاهدة ندري أنه لا يدري أحد فضل إنسان على غيره ممن بعد الصحابة رضي الله عنهم إلّا بالظنّ ، والحكم بالظن لا يحل. قال الله تعالى ذامّا لقوم : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [سورة الجائية : ٣٢].
وقال تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [سورة الزخرف : ٢٠].
وقال تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [سورة الذاريات : ١٠].
وقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) [سورة النجم : ٢٣ ، ٢٤].
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إيّاكم والظنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث» (١).
وأيضا : فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل ، فيكون الواحد أزهد ، ويكون الآخر أورع ، ويكون الآخر أسوس ، ويكون الرابع أشجع ، ويكون الخامس أعلم ، وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم ، فبطل معرفة الأفضل ، وصحّ أنّ هذا القول فاسد ، وتكليف ما لا يطاق ، وإلزام ما لا يستطاع ، وهذا باطل لا يحل ، والحمد لله رب العالمين.
ثم قد وجدنا أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد قلّد النواحي ، وصيّر فيها تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم ، فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل ، وأبا موسى ، وخالد بن سعيد ، وعلى عمان : عمرو بن العاص ،
__________________
(١) رواه عن أبي هريرة البخاري في الوصايا باب ٨ ، والنكاح باب ٤٥ ، والفرائض باب ٢ ، والأدب باب ٥٧ و ٥٨. ومسلم في البر والصلة والآداب حديث ٢٨. والترمذي في البر والصلة باب ٥٦. ومالك في حسن الخلق حديث ١٥. وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٥ ، ٢٨٧ ، ٣١٢ ، ٤٦٥ ، ٤٧٠ ، ٤٨٢ ، ٤٩٢ ، ٥٠٤ ، ٥١٧ ، ٥٣٩).