عاشها الكليني ببغداد ، فلابدّ من إعطاء صورة واضحة للمؤثّرات السياسيّة والفكريّة التي أسهمت في تكوين رؤية الكليني للمجتمع الجديد وتساؤلاته التي حاول الإجابة عليها في كتابه الكافي ، فنقول :
يرجع تدهور الحياة السياسيّة ببغداد في عصر الكليني إلى أسباب كثيرة أدّت إلى سقوط هيبة الدولة من أعين الناس ، إليك أهمّها :
أوّلاً ـ نظام ولاية العهد :
وهو نظام سياسي عقيم ، وخلاصته : أن يعهد الخليفة بالخلافة لمن يأتي بعده مع أخذ البيعة له من الامّة كرهاً في حياته ، وهو بهذه الصورة يمثّل قمّة الاستبداد وإلغاء دور الامّة وغمط الحقوق السياسيّة لجميع أفرادها.
وممّا زاد الطين بلّة في العصر العبّاسي الثاني إعطاء ولاية العهد لثلاثة ، وهو ما فعله المتوكّل الذي قسّم الدولة على ثلاثة من أولاده ، وهم : المنتصر ، والمعتزّ ، والمؤيّد (١) ، ممّا فسح ـ بهذا ـ المجال أمامهم للتنافس ، ومحاولة كلّ واحد عزل الآخر من خلال جمع الأعوان والأنصار ، بحيث أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى معارك طاحنة كما حصل بين الأمين والمأمون.
وهذا النظام وإن انتهى بعد قتل المتوكّل ، إلاّ أنّ البديل كان أشدّ عقماً ؛ إذ صار أمر تعيين الخليفة منوطاً بيد الأتراك لا بيد أهل الحلّ والعقد ، مع التزامهم بعدم خروج السلطة عن سلالة العبّاسيّين وإن لم يكن فيهم رجل رشيد.
ثانياً ـ عبث الخلفاء العبّاسيّين ولهوهم وسوء سيرتهم :
ممّا أدّى إلى تفاقم الأوضاع في هذا العصر انشغال الخلفاء العبّاسيّين بالعبث واللهو ، إلى حدّ الاستهتار بارتكاب المحرّمات علناً بلا حريجة من دين أو واعظ من ضمير.
وقد عُرِفَ عبثهم ومجونهم منذ عصرهم الأوّل ، فالمنصور العبّاسي ( ١٣٦ ـ ١٥٨ هـ ) مثلاً كان في معاقرته الخمر يحتجب عن ندمائه ؛ صوناً لمركزه ، في حين أعلن ولده المهدي ( ١٥٨ ـ ١٦٩ هـ ) ذلك ، وأبى الاحتجاب عن الندماء بل شاركهم (٢).
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ، ج ٢ ، ص ٤٨٧ ؛ تاريخ الطبري ، ج ٩ ، ص ١٧٦ ، في حوادث سنة ٢٣٥ ه.
(٢) تاريخ الخلفاء ، ص ٢٢٢.