ثامناً ـ انفصال الأقاليم واستقلال الأطراف :
بسبب ضعف السلطة المركزيّة ببغداد وتدهورها شهدت الدولة الإسلاميّة في عصر الكليني انفصالاً واسعاً لبعض الأقاليم ، واستقلالاً كلّيّاً لجملة من الأطراف ، كما هو حال الدولة الامويّة في الاندلس والفاطميّة في شمال أفريقيا وغيرها.
وصفوة القول : إنّ العصر العبّاسي الثاني الذي عاش الكليني أواخره ببغداد ، كان عصراً مليئاً بالمشاكل السياسيّة للأسباب المذكورة ، وكان من نتائج ذلك أنْ عمّ الفساد ، وانتشرت الرشوة ، وضاعت الأموال ، وابتعد الناس عن الإسلام لا سيّما خلفاء المسلمين وقادتهم ووزرائهم ، وهذا ما دفع حماة الشريعة إلى ذكر فضائحهم وعتوّهم كلّما سنحت لهم الفرصة ، كما فعل الكليني رحمهالله الذي بيّن في كتاب القضاء من الكافي تهافت اصول نظريّات الحكم الدخيلة على الفكر الإسلامي ، فضلاً عمّا بيّنه في كتاب الحجّة وغيره من كتب الكافي من انحراف القائمين على تلك النظريّات الفاسدة بأقوى دليل ، وأمتن حجّة ، وأصدق برهان.
المطلب الثاني : الحياة الثقافيّة والفكريّة ببغداد
أوّلاً ـ مركزيّة بغداد وشهرتها العلميّة :
استمرّت الحياة الثقافيّة والفكريّة في عصر الكليني ببغداد بسرعة حركتها أكثر بكثير ممّا كانت عليه في العصر العبّاسي الأوّل. وقد ساعد على ذلك ما امتازت به بغداد على غيرها من الحواضر العلميّة ، بتوفّر عوامل النهضة الثقافيّة والفكريّة فيها أكثر من غيرها بكثير ؛ فهي من جهةٍ عاصمة لأكبر دولة في عصر الكليني ، امتدّت حدودها من الصين شرقاً إلى مراكش غرباً ومن جهةٍ اخرى تمثّل دار الخلافة وبيت الوزارة والإمارة ، ومعسكر الجند ، ورئاسة القضاء ، وديوان الكتابة ، وفيها بيت المال ، وإليها يجبى الخراج.
وأمّا موقعها الجغرافي فليس له نظير ، ويكفي أنّ أكبر الأقاليم الإسلاميّة يوم ذاك أربعة : بلاد فارس ، والحجاز ، ومصر ، والشام ، وهي أشبه ما تكون بنقاط متناسبة البعد وموزّعة على محيط دائرة إسلاميّة مركزها بغداد.