الجزاء (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) المراد به تحريم صيد البر ، والذي تناله الأيدي فراخ الطير ، وصغار الوحش ، والبيض ، والذي تناله الرماح الكبار من الصيد (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) معناه : ليعاملكم معاملة من يطلب منكم أن يعلم ، مظاهرة في العدل وقوله : بالغيب معناه : أن يخشى عقابه إذا توارى بحيث لا يقع عليه الحس (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي من تجاوز حدّ الله ، وخالف أمره بالصيد (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم. ثم ذكر سبحانه عقيب ذلك ما يجب على ذلك الإعتداء من الجزاء فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) هو كل الوحش ، أكل أو لم يؤكل (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي وأنتم محرمون بحج أو عمرة (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) هو أن يتعمد القتل وإن كان ذاكرا لإحرامه (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل ، ففي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش وشبهه بقرة ، وفي الظبي والأرنب شاة (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال ابن عباس : يريد يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم ، أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يهديه هديا يبلغ الكعبة ، قال ابن عباس يريد إذا أتى مكة ذبحه وتصدّق به (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) أن يقوم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاما يتصدق به (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أن يصوم عن كل مدين يوما (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي عقوبة ما فعله في الآخرة إن لم يتب (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من أمر الجاهلية (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي من عاد إلى قتل الصيد محرما فالله سبحانه يكافيه عقوبة بما صنع (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) معناه : قادر لا يغلب ، ذو انتقام ينتقم ممن يتعدى أمره ، ويرتكب نهيه.
٩٦ ـ ثمّ بين سبحانه ما يحلّ من الصيد وما لا يحلّ فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) أي أبيح لكم صيد الماء (وَطَعامُهُ) يعني طعام البحر يريد به المملوح ، وإنما سمي طعاما لأنه يدّخر ليطعم فصار كالمقتات من الأغذية ، فيكون المراد بصيد البحر : الطري ، وبطعامه : المملوح ، لأن عندنا لا يجوز أكل ما يقذف به البحر ميّتا للمحرم (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) قيل معناه : منفعة للمقيم والمسافر وقيل : للمحل والمحرم (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) هذا يقتضي تحريم الإصطياد في حال الإحرام ، وتحريم أكل ما صاده الغير (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) هذا أمر منه تعالى بأن يتقي جميع معاصيه ، ويجتنب جميع محارمه ، لأن إليه الرجوع في الوقت الذي لا يملك أحد فيه الضرّ والنفع سواه.
٩٧ ـ لما ذكر سبحانه حرمة الحرم عقّبه بذكر البيت الحرام والشهر الحرام فقال : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي جعل الله حجّ الكعبة أو نصب الكعبة (قِياماً لِلنَّاسِ) أي لمعايش الناس ومكاسبهم لأنه يحصل لهم في زيارتها من التجارة وأنواع البركة ولهذا قال : سعيد بن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) يعني الأشهر الحرم الأربعة ، وأحد فرد ، وثلاثة سرد : أي متتابعة ، فالفرد : رجب ، والسرد : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وإنما خرج مخرج الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) مرّ ذكرهما في أول السورة ، وإنما ذكر هذه الجملة بعد ذكر البيت لأنها من أسباب حجّ البيت فدخلت في جملته فذكرت معه قال أبو بكر الأنباري : إن الله تعالى منّ على المسلمين بأن جعل الكعبة صلاحا لدينهم ودنياهم وقياما لهم (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إنه الله تعالى علم أنّ العرب يكونون أصحاب عداوات وطوائل وأنهم يكونون حوالي الكعبة ، فلما خلق السماوات والأرض جعل الكعبة موضع أمن ، وعظّم حرمتها في القلوب ، وبقيت تلك الحرمة إلى يومنا