١٠٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) أي هلموا (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن ، واتباع ما فيه ، والإقرار بصحته (وَإِلَى الرَّسُولِ) وتصديقه ، والإقتداء به وبأفعاله (قالُوا) في الجواب عن ذلك (حَسْبُنا) أي كفانا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعني مذاهب آبائنا. ثم أخبر سبحانه منكرا عليهم (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) أي أنهم يتبعون آباءهم فيما كانوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان وإن كان آباؤهم (لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الدين (وَلا يَهْتَدُونَ) طريق العلم ، وفي هذه الآية دلالة على فساد التقليد ، وأنه لا يجوز العمل في شيء من أمور الدين إلا بحجة ، وفي هذه الآية دلالة أيضا على وجوب المعرفة.
١٠٥ ـ لمّا بيّن سبحانه حكم الكفار الذين قلّدوا آباءهم وأسلافهم ، وركنوا إلى أديانهم ، عقّبه بالأمر بالطاعة ، وبيان أن المطيع لا يؤاخذه بذنوب العاصي فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) معناه : احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي لا يضركم ضلال من ضل من آبائكم وغيرهم إذا كنتم مهتدين وهذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين فقال : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : يعني عليكم أهل دينكم كما قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، وهذا قول ابن عباس (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي مصيركم ومصير من خالفكم (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يجازيكم بأعمالكم ، وفي هذه غاية الزجر والتهديد.
١٠٦ ـ لما قدم الأمر بالرجوع إلى ما أنزل عقّبه بذكر هذا الحكم المنزل فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المؤمنون (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ) أي حضر أسباب الموت من مرض وغيره (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من أهل دينكم وملتكم (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من غير أهل ملتكم (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) ومعناه : فأصابكم الموت. علم الله تعالى ان من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين ، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم ، ويحضره الموت فلا يجد من يشهده من المسلمين فقال : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) : أي من غير دينكم ، فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر إن أمكن اشهادهما في السفر ، والذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما ثم قال : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) المعنى : تحبسونهما من بعد صلاة العصر ، لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت ، ومعنى تحبسونهما : تقفونهما وتقيمونهما ، كما تقول : مرّ بي فلان على فرس فحبس على دابته ، أي وقفه والخطاب في تحبسونهما للورثة ، ويجوز أن يكون خطابا للقضاة ويكون بمعنى الأمر ، أي فاحبسوهما (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) أي لا نشتري بتحريف الشهادة ثمنا ومعناه : لا نبيعه بعرض من الدنيا ، لأن من باع شيئا فقد اشترى ثمنه ، ويريد لا نحابي في شهادتنا أحدا (وَلَوْ كانَ) المشهود له (ذا قُرْبى) خصّ ذا القربى بالذكر لميل الناس إلى أقربائهم ومن يناسبونه (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي شهادة لزمنا اداؤها بأمر الله تعالى (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي انا إن فعلنا ذلك كنا من الآثمين.
١٠٧ ـ ١٠٨ ـ ثمّ بيّن سبحانه الحكم بعد ظهور الخيانة من الوصيين أو الشاهدين فقال : (فَإِنْ عُثِرَ) أي اطلع وظهر (عَلى أَنَّهُمَا) أي الشاهدين (اسْتَحَقَّا) أي استوجبا (إِثْماً) أي ذنبا بأيمانهم الكاذبة وخيانتهما ، وقصدهما في شهادتهما إلى غير الإستقامة (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) أي مقام الشاهدين اللذين هما من غيرنا (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) المعنى : فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله