ذلك سبحانه بالبيان انه على حجة من ذلك وبينة ، وانه لا بينة لهم فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على أمر بيّن لا متبع لهوى (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بما أتيتكم به من البيان : يعني القرآن (ما عِنْدِي) أي ليس عندي (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) قيل معناه : الذي تطلبونه من العذاب ، كانوا يقولون : يا محمد آتنا بالذي تعدنا ، وهذا كقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) يريد أن ذلك عند ربي في الفصل بين الحق والباطل (يَقُصُّ الْحَقَ) بقوله ويخبر به (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) لأنه لا يظلم في قضاياه ولا يجوز عن الحق (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي برأيي وإرادتي (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من إنزال العذاب بكم (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لفرغ من الأمر بأن أهلككم فاستريح منكم ، غير أن الأمر فيه إلى الله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) وبوقت عذابهم وما يصلحهم.
٥٩ ـ ٦٠ ـ لما ذكر سبحانه أنه أعلم بالظالمين ، بيّن عقيبه أنه لا يخفى عليه شيء من الغيب ، ويعلم أسرار العالمين قال : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) معناه : وعنده خزائن الغيب الذي فيه علم العذاب المستعجل به وغير ذلك لا يعلمها أحد إلّا هو ، أو من أعلمه إياه وتأويل الآية : ان الله تعالى عالم بكل شيء من مبتدآت الأمور وعواقبها ، فهو يعجل ما تعجيله أصوب وأصلح ، ويؤخر ما تأخيره أصوب وأصلح ، (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من حيوان وغيره (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) وقيل : يعلم ما سقط من ورق الأشجار وما بقي (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) معناه : وما تسقط من حبة في باطن الأرض إلّا يعلمها (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) قد جمع الأشياء كلها في قوله : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) لأن الأجسام كلها لا تخلو من أحد هذين (إِلَّا فِي كِتابٍ) معناه : وهو مكتوب في كتاب (مُبِينٍ) أي في اللوح المحفوظ ، ولم يكتبها في اللوح المحفوظ ليحفظها ويدرسها فإنه كان عالما بها قبل أن كتبها ، ولكن ليعارض الملائكة الحوادث على ممر الأيام بالمكتوب فيه فيجدونها موافقة للمكتوب فيه فيزدادون علما ويقينا بصفات الله تعالى ، وأيضا فإن المكلف إذا علم أن أعماله مكتوبة في اللوح المحفوظ تطالعها الملائكة قويت دواعيه إلى الأفعال الحسنة ، وترك القبائح (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي يقبض أرواحكم عن التصرف (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي ما كسبتم من الأعمال على التفصيل بالنهار على كثرته وكثرتكم ، وفيه إشارة إلى رحمته حيث يعلم مخالفتهم إياه ثم لا يعاجلهم بعقوبة ، ولا يمنعهم فضله ورحمته (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي ينبهكم من نومكم في النهار ، جعل انتباههم من النوم بعثا (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) معناه : لتستوفوا آجالكم وفي هذا حجة على النشأة الثانية لأن منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم ، في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) يريد إذا تمت المدة المضروبة لكل نفس نقله إلى الدار الآخرة ، ومعنى إليه : إلى حكمه وجزائه ، وإلى موضع ليس لأحد سواه فيه أمر (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بما غفلتم عنه من أعمالكم. وفي هذه الآية دلالة على البعث والإعادة ، نبّه الله على ذلك بالنوم واليقظة ، فإنّ كلا منهما لا يقدر عليه غيره تعالى.
٦١ ـ ٦٢ ـ ثم زاد سبحانه في بيان كماله قدرته فقال (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) معناه : والله المقتدر المستعلي على عباده ومثله قوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، فالمراد به أنه أقوى وأقدر منهم ، وأنه القاهر لهم (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) تقديره ، وهو الذي يقهر عباده ، ويرسل عليكم حفظة ، أي ملائكة يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم ويكتبونها ، وفي هذا لطف للعباد لينزجروا عن المعاصي إذا علموا أن عليهم حفظة من عند الله يشهدون بها عليهم يوم القيامة (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ