المصلحة والحكمة تقتضيان ذلك ، والمعجزات الباهرة تدل على بعثة كثير منهم ، ثم أمر سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآله فقال : (قُلْ) يا محمد لهم (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) يعني التوراة ، وإنما احتجّ بذلك عليهم لأن القائل لذلك من اليهود (نُوراً) أي يستضاء به في الدين كما يستضاء بالنور في الدنيا (وَهُدىً لِلنَّاسِ) أي دلالة يهتدون به (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أي كتبا وصحفا متفرقة معناه : تجعلونه ذا قراطيس ، أي تودعونه إياها (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي تبدون بعضها ، وتكتمون بعضها وهو ما في الكتب من صفات النبي (ص) والإشارة اليه ، والبشارة به (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) قيل : انه خطاب للمسلمين يذكرهم ما أنعم به عليهم وقيل : هو خطاب لليهود ، أي علمتم التوراة فضيعتموه ولم تنتفعوا به (قُلْ) يا محمد (اللهَ) أي الله أنزل ذلك ، وهذا كما ان الإنسان إذا أراد البيان والاحتجاج بما يعلم ان الخصم مقرّ به ، ولا يستطيع دفعه ذكر ذلك ثم تولى الجواب عنه بما قد علم انه لا جواب له غيره (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي دعهم وما يختارونه من العناد ، وما خاضوا فيه من الباطل واللعب.
٩٢ ـ لمّا احتجّ سبحانه بانزال التوراة على موسى (ع) بيّن أن سبيل القرآن سبيلها فقال : (وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن (أَنْزَلْناهُ) من السماء إلى الأرض ، لأن جبرائيل (ع) أتى به من السماء (مُبارَكٌ) وإنما سماه مباركا لأنه كل من تمسك به نال الفوز (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل وغيرهما (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) يعني بأم القرى مكة ، ومن حولها : أهل الأرض كلهم (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ) أي على أوقات صلواتهم (يُحافِظُونَ) أي يراعونها ليؤدوها فيها ، ويقوموا بإتمام ركوعها وسجودها وجميع أركانها ، وفي هذا دلالة على عظم قدر الصلاة ومنزلتها لأنه سبحانه خصّها بالذكر من بين سائر الفرائض.
٩٣ ـ لمّا تقدّم ذكر نبوة النبي (ص) ، وإنزال الكتاب عليه ، عقّبه سبحانه بذكر تهجين الكفار الذين كذّبوه أو ادّعوا انهم يأتون بمثل ما أتى به فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) هذا استفهام في معنى الإنكار ، أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى انه نبي وليس بنبي (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) أي يدّعي الوحي ولا يأتيه ، وهذا وان كان داخلا في الافتراء فإنما أفرد بالذكر تعظيما (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) قال الزجاج : هذا جواب لقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، فادّعوا ثم لم يفعلوا ، وبذلوا النفوس والأموال ، واستعملوا سائر الحيل في إطفاء نور الله وأبى الله إلا أن يتم نوره. ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي في شدائد الموت عند النزع (وَالْمَلائِكَةُ) الذين يقبضون الأرواح (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي يقولون أخرجوا أنفسكم من سكرات الموت إن استطعتم وصدقتم فيما قلتم وادعيتم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي عذابا تلقون فيه الهوان (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) أي في الدنيا (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي تأنفون عن اتباع آياته.
٩٤ ـ ثمّ بيّن سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ فقال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) هو من كلام الملائكة يؤدونه عن الله إلى الذين يقبضون أرواحهم (فُرادى) أي وحدانا لا مال لكم ولا خول ولا ولد ولا حشم (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قال الزجاج : معناه كما بدأناكم أول مرة أي يكون