قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ) أي ذلك العقاب لكم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بما قدمتم وفعلتم ، بجنايتكم الكفر والمعاصي (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لا يظلم عباده في عقوبتهم من حيث انه إنما عاقبهم بجناياتهم على قدر استحقاقهم.
٥٢ ـ ٥٤ ـ ثم بيّن سبحانه أن حال هؤلاء الكفار كحال الذين من قبلهم فقال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي عادة هؤلاء المشركين في الكفر بمحمد (ص) كعادة آل فرعون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في الكفر بالرسل وما انزل اليهم وقيل معناه : عقوبة الله تعالى لهؤلاء الكفار كعقوبته لآل فرعون (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) كما كفر هؤلاء (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي فعاقبهم الله (بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) أي قادر لا يقدر أحد على منعه عن احلال العقاب بما يريد (شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن استحقّه (ذلِكَ) أي ذلك الأخذ والعقاب لهم (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) معناه : بأن الله لم يكن يزيل نعمة انعمها على قوم حتى يتغيروا هم عن أحوالهم المرضية إلى أحوال لا يجوز لهم أن يتغيروا إليها وهو أن يستبدلوا المعصية بالطاعة ، وكفران النعمة بشكرها ، وقد يسلب الله تعالى النعمة على وجه المصلحة لا على وجه العقاب إمتحانا لمصلحة يعلمها في ذلك (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بضمائرهم وبكل شيء (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كعادتهم وطريقتهم في التكذيب بآيات الله (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي بحججه وبيناته (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي استأصلناهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي كل هؤلاء المهلكين كانوا ظالمين لأنفسهم ، فلم نعاقب فريقا منهم إلّا عن استحقاق ، وإنما كرّر قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) لأنه اراد بالأول بيان حالهم في استحقاق عذاب الآخرة ، وبالثاني بيان استحقاقهم لعذاب الدنيا وقيل : إن في الأول تشبيه حالهم بحال اولئك في التكذيب ، وفي الثاني تشبيه حالهم بحالهم في الاستئصال.
٥٥ ـ ٥٦ ـ ثم ذمّ سبحانه الكفار فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) أي شرّ من يدبّ على وجه الأرض في معلوم الله ، أو في حكم الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) واستمروا على كفرهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا اخبار عن قوم من المشركين أنهم لا يؤمنون أبدا فخرج المخبر على وفق الخبر فماتوا مشركين (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) معناه : عاهدت معهم قال مجاهد : أراد به يهود بن قريظة فإنهم كانوا قد عاهدوا النبي (ص) على أن لا يضروا به ، ولا يمالئوا عليه عدوا ، ثم مالأوا عليه الأحزاب يوم الخندق ، وأعانوهم عليه بالسلاح ، وعاهدوا مرة بعد أخرى فنقضوا فانتقم الله منهم (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي كلما عاهدتهم نقضوا العهد ولم يفوا به (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) نقض العهد وقيل : لا يتقون عذاب الله تعالى.
٥٧ ـ ٥٨ ـ ثم حكم سبحانه في هؤلاء الناقضين للعهد فقال لنبيه (ص) : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) معناه : فإما ما تصادفنهم في الحرب : أي إن ظفرت بهم وادركتهم (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي فنكّل بهم تنكيلا ، وأثّر فيهم تأثيرا يشرّد بهم من بعدهم ، ويطردهم ويمنعهم من نقض العهد بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم فلا ينقضوا العهد (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لكي يتذكروا ويتعظوا وينزجروا عن مثل ذلك (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) معناه : وإن خفت يا محمد من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فيه ، لأن الخيانة إنما تكون بعد تقدم العهد ، ولم يظهر منهم نقض العهد بعد (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي فالق إليهم ما بينك وبينهم من العهد ، وأعلمهم