فيما يأمرانكم به (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) أي لا تتنازعوا في لقاء العدوّ ، ولا تختلفوا فيما بينكم فتجبنوا عن عدوكم : وتضعفوا عن قتالهم (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) معناه : تذهب صولتكم وقوتكم وقال الأخفش : دولتكم (وَاصْبِرُوا) على قتال الأعداء (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والمعونة (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) أي بطرين ، يعني قريشا خرجوا من مكة ليحموا عيرهم ، فخرجوا معهم بالقيان والمعازف يشربون الخمور ، وتعزف عليهم القيان (وَرِئاءَ النَّاسِ) أنهم وردوا بدرا ليروا الناس أنهم لا يبالون بالمسلمين ، وفي قلوبهم من الرعب ما فيه ، فسمى الله سبحانه ذلك رئاء (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ويمنعون غيرهم عن دين الله (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها ، ولا يخفى عليه منها شيء.
٤٨ ـ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) واذكروا إذ زيّن الشيطان للمشركين أعمالهم : أي حسّنها في نفوسهم (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم وقوتكم (وَإِنِّي) مع ذلك (جارٌ لَكُمْ) أي ناصر لكم ودافع عنكم السوء (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي التقت الفرقتان (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي رجع القهقرى منهزما وراءه (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) أي رجعت عما كنت ضمت لكم من الأمان والسلامة ، لأني أرى الملائكة الذين جاءوا لنصر المسلمين (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي أخاف عذاب الله على أيدي من أراهم (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) ولا يطاق عقابه. واختلف في ظهور الشيطان يوم بدر كيف كان ، فقيل : إن قريشا لما اجمعت المسير ذكرت الذي بينها وبين كنانة من الحرب ، وكاد ذلك أن يثنيهم ، فجاء إبليس فتبدّى لهم في صورة سراقة بن مالك الكناني ، فقال لهم : اني مجير لكم من كنانة ؛ فلما رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء ، نكص على عقبيه قيل : انه لما التقوا كان إبليس فى صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام ، فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : يا سراقة أين؟ أتخذلنا على هذه الحال؟! فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس ، فلما قدموا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان.
٤٩ ـ ٥١ ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) وهم الذين يبطنون الكفر ، ويظهرون الإيمان (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم الشاكون في الإسلام مع إظهارهم كلمة الإيمان (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي غرّ المسلمين دينهم حتى خرجوا مع قلتهم إلى قتال المشركين مع كثرتهم ، ولم يحسنوا النظر لأنفسهم حين اغترّوا بقول رسولهم ؛ فبيّن الله تعالى أنهم هم المغرورون بقوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فمعناه : ومن يسلم لأمر الله ، ويثق به ، ويرضى بفعله ، وإن قلّ عددهم ، فإن الله تعالى ينصرهم على أعدائهم ، وهو عزيز لا يغلب ، فكذلك لا يغلب من توكل عليه ، وهو حكيم يضع الأمور مواضعها على ما تقتضيه الحكمة (وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) أي يقبضون أرواحهم عند الموت (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) يضربون أجسادهم من قدامهم ومن خلفهم ، والمراد به قتلى بدر ؛ وروى مجاهد أن رجلا قال للنبي (ص) : إنى حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه فندر رأسه ، فقال : سبقك إليه الملائكة (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي ويقول الملائكة للكفار استخفافا بهم : ذوقوا عذاب الحريق بعد هذا في الآخرة وقيل : إنه كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد ، كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم فذلك