والغلبة والقهر لها حتى لا يبقى على وجه الأرض دين إلّا مغلوبا ، ولا يغلب أحد أهل الإسلام بالحجة وهم يغلبون أهل سائر الأديان بالحجة ، وأما الظهور بالغلبة فهو ان كل طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك ولحقهم قهر من جهتهم وقال أبو جعفر (ع): ان ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمد وهو قول السدي وقال الكلبي لا يبقى دين إلّا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك ولم يكن بعد ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي وان كرهوا هذا الدين فإن الله يظهره رغما لهم.
٣٤ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه حال الأحبار والرهبان فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي يأخذون الرشى على الحكم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون غيرهم عن اتباع الإسلام الذي هو سبيل الله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) أي يجمعون المال ولا يؤدّون زكاته (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أخبرهم بعذاب موجع (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي يوقد على الكنوز أو على الذهب والفضة في نار جهنم حتى تصير نارا (فَتُكْوى بِها) أي بتلك الكنوز المحماة والأموال التي منعوا حق الله فيها بأعيانها (جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) وإنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي يقال لهم في حال الكي أو بعده : هذا جزاء ما كنزتم وجمعتم المال ولم تؤدوا حق الله عنها وجعلتموها ذخيرة لأنفسكم (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون : أي تجمعون وتمنعون حق الله منه.
٣٦ ـ لما ذكر الله سبحانه وعيد الظالم لنفسه بكنز المال من غير اخراج الزكاة وغيرها من حقوق الله منه اقتضى ذلك أن يذكر النهي عن مثل حاله أو شرّ منه في المنقلب فقال : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) أي عدد شهور السنة في حكم الله وتقديره اثنا عشر شهرا ، وإنما تعبّد الله المسلمين ان يجعلوا سنيهم على اثني عشر شهرا ليوافق ذلك عدد الأهلة ومنازل القمر دون ما دان به أهل الكتاب (فِي كِتابِ اللهِ) معناه : فيما كتب الله في اللوح المحفوظ وفي الكتب المنزلة على انبيائه (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لأنه يوم خلق السماوات والأرض أجرى فيها الشمس والقمر وبمسيرهما تكون الشهور والأيام ، وبهما تعرف الشهور (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أي من هذه الاثني عشر شهرا أربعة أشهر حرم ، ثلاثة منها سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب ، ومعنى حرم : انه يعظم انتهاك المحارم فيها أكثر مما يعظم في غيرها ، وكانت العرب تعظمها حتى لو أن رجلا لقي قاتل أبيه فيها لم يهجه لحرمتها ، وإنما جعل الله تعالى بعض هذه الشهور أعظم حرمة من بعض لما علم من المصلح في الكفّ عن الظلم فيها لعظم منزلتها ، ولأنه ربما أدى ذلك إلى ترك الظلم أصلا لانطفاء النائرة ، وانكسار الحمية في تلك المدة ، فإن الأشياء تجرّ إلى اشكالها (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الحساب المستقيم الصحيح لا ما كانت العرب تفعله من النسيء (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) أي في هذه الشهور (أَنْفُسَكُمْ) بترك أوامر الله وارتكاب نواهيه (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي قاتلوهم جميعا مؤتلفين غير مختلفين (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي جميعا كذلك ، فتكون كافة حالا عن المسلمين (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنصرة والولاية.
٣٧ ـ لما قدّم سبحاه ذكر السنة والشهر عقبه بذكر ما كانوا يفعلونه من النسيء فقال : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) يعني تأخير الأشهر الحرم عما رتّبها الله سبحانه عليه ، وكانت العرب تحرم الشهور الأربعة وذلك مما تمسك به من ملة