١٨٩ ـ ثم بيّن شريعة أخرى فقال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) أي أحوال الأهلة في زيادتها ونقصانها ، ووجه الحكمة في ذلك (قُلْ) يا محمد (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) أي هي مواقيت يحتاج الناس إلى مقاديرها في صومهم ، وفطرهم ، وعدد نسائهم ، ومحل ديونهم وحجهم ، فبين سبحانه أن وجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه ما تعلق بذلك من مصالح الدين والدنيا ، لأن الهلال لو كان مدورا أبدا مثل الشمس لم يمكن التوقيت به وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) معناه : ليس البر أن تأتوا البيوت من غير جهاتها ، وينبغي أن تأتوا الأمور من جهاتها ، أيّ الأمور كان (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) قد مرّ معناه (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) قد مضى معناه (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) معناه : واتقوا ما نهاكم الله عنه ، وزهّدكم فيه لكي تفلحوا بالوصول إلى ثوابه الذي ضمنه للمتقين.
١٩٠ ـ ثم بيّن سبحانه أمر الجهاد فقال مخاطبا للمؤمنين (وَقاتِلُوا) الكفار (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي دين الله وهو الطريق الذي بيّنه للعباد ليسلكوه على ما أمرهم به ودعاهم إليه (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) أمروا بقتال المقاتلين دون النساء (وَلا تَعْتَدُوا) أي ولا تجاوزوا معناه : لا تعتدوا بقتال من لم يبدأكم بقتال (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ظاهره يقتضي أنه يسخط عليهم لأنه على جهة الذم لهم.
١٩١ ـ ثم خاطب الله تعالى المؤمنين مبيّنا لهم كيفية القتال مع الكافرين فقال : (وَاقْتُلُوهُمْ) أي الكفار (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) يعني أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي شركهم بالله وبرسوله أعظم من القتل في الشهر الحرام ، وسمّي الكفر فتنة لأن الكفر يؤدي إلى الهلاك كما إن الفتنة تؤدي إلى الهلاك وقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) نهى عن ابتدائهم بقتال أو قتل في الحرم حتى يبتدىء المشركون بذلك (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) أي بدأوكم بذلك (فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أن يقتلوا.
١٩٢ ـ (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي امتنعوا من كفرهم بالتوبة منه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فاختصر الكلام لدلالة ما تقدم من الشرط عليه.
١٩٣ ـ ثم بيّن تعالى غاية وجوب القتال ، وقال يخاطب المؤمنين (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وحتى تكون الطاعة لله ، والإنقياد لأمر الله ، ويظهر الإسلام على الأديان كلها (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي إمتنعوا من الكفر ، واذعنوا للإسلام (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فلا عقوبة عليهم ، وإنما العقوبة بالقتل على الكافرين المقيمين على الكفر.
١٩٤ ـ ثم بيّن الله تعالى القتال في الشهر الحرام فقال (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) معناه : الشهر الحرام ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكة واعتمرتم وقضيتم منها وطركم في سنة سبع ؛ بالشهر الحرام ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت ، ومنعتم عن مرادكم في سنة ست (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) بالقتال في الشهر الحرام ، أي لا يجوز للمسلمين إلا قصاصا ، قال الحسن : إن مشركي العرب قالوا لرسول الله أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال : نعم ، وإنما أراد المشركون أن يغرّوه في الشهر الحرام فيقاتلوه ، فأنزل الله