يهتدون بالأدلة ولا تقدر على ردّهم عن العمى إذ لم يطلبوا الإستبصار (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ليس تسمع الا من يصدّق بآياتنا وأدلّتنا فإنهم المنتفعون بدعائك واسماعك (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون لأمر الله. ثم عاد سبحانه إلى ذكر الأدلة فقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي من نطف وقيل معناه خلقكم أطفالا لا تقدرون على البطش والمشي والتصرفات (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) أي شبابا (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) يعني حال الشيخوخة والكبر (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوة (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما فيه مصالح خلقه (الْقَدِيرُ) على فعله ، يفعل بحسب ما يعلمه من المصلحة. ثم بيّن سبحانه حال البعث فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي يحلف المشركون (ما لَبِثُوا) في القبور (غَيْرَ ساعَةٍ) واحدة عن الكلبي ومقاتل وقيل : يحلفون ما مكثوا في الدنيا غير ساعة لإستقلالهم مدة الدنيا وقيل : يحلفون ما لبثوا بعد انقطاع عذاب القبر غير ساعة عن الجبائي. ومتى قيل : كيف يحلفون كاذبين مع ان معارفهم في الآخرة ضرورية؟ قيل فيه أقوال (أحدها) انهم حلفوا على الظن ولم يعلموا لبثهم في القبور ، فكأنهم قالوا : ما لبثنا غير ساعة في ظنوننا عن أبي علي وأبي هاشم (وثانيها) انهم استقلوا الدنيا لما عاينوا من أمر الآخرة ، فكأنهم قالوا : ما الدنيا في الآخرة إلا ساعة ، فاستقلوا حيث اشتغلوا في المدة اليسيرة بما أوردهم تلك الأهوال الكثيرة (وثالثها) ان ذلك يجوز أن يقع منهم قبل إكمال عقولهم عن أبي بكر بن الأخشيد (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) في دار الدنيا ، أي يكذبون وقيل : يصرفون ، صرفهم جهلهم عن الحق في الدارين.
٥٦ ـ ٦٠ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) أي آتاهم الله العلم بما نصب لهم من الأدلة الموجبة له فنظروا فيها فحصل لهم العلم ، فلذلك أضافه إلى نفسه لما كان هو الناصب للأدلة على العلوم والتصديق بالله وبرسوله (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) أي مكثتم (فِي كِتابِ اللهِ) ومعناه : ان لبثكم ثابت في كتاب الله ، ثبته الله فيه وهو قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، وهذا كما يقال : إن كل ما يكون فهو في اللوح المحفوظ ، أي هو مثبت فيه والمراد : لقد لبثتم في قبوركم (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) وقيل : (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) هم الملائكة وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم المؤمنون وقال الزجاج : (فِي كِتابِ اللهِ) : أي في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه في الدنيا (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقوعه في الدنيا فلم ينفعكم العلم به الآن ؛ ويدلّ على هذا المعنى قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر (مَعْذِرَتُهُمْ) فلا يمكنون من الإعتذار ، ولو اعتذروا لم يقبل عذرهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم الإعتاب والرجوع إلى الحق (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي بالغنا في البيان للمكلفين في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبيّنا من كل مثل يدعوهم إلى التوحيد والإيمان (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) أي معجزة باهرة مما اقترحوها منك (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي أصحاب أباطيل. وهذا إخبار عن عناد القوم وتكذيبهم بالآيات (كَذلِكَ) أي مثل ما طبع الله على قلوب هؤلاء (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) توحيد الله. والطبع والختم مفسّران في سورة البقرة (فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى هؤلاء الكفار وإصرارهم على كفرهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بالعذاب والتنكيل لأعدائك ، والنصر والتأييد لك ولدينك (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) أي لا يستفزنك (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بالبعث والحساب ، فهم ضالون شاكّون وقيل : لا يستخفنّك أي لا يحملنّك كفر هؤلاء على الخفة والعجلة لشدة الغضب عليهم لكفرهم بآياتك فتفعل خلاف ما أمرت به من الصبر والرفق عن الجبائي.