بأن قال (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (لِلنَّاسِ) أي لجميع الخلق (بِالْحَقِ) معناه : بأنه الحق الذي يجب النظر في موجبه ومقتضاه ، فما صحّحه وجب تصحيحه ، وما أفسده وجب إفساده ، وما رغّب فيه وجب العمل به ، وما حذّر منه وجب اجتنابه ، وما دعا إليه فهو الرشد ، وما صرف عنه فهو الغيّ (فَمَنِ اهْتَدى) بما فيه من الأدلة (فَلِنَفْسِهِ) لأن النفع في عاقبته يعود إليه (وَمَنْ ضَلَ) عنه وحاد (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي على نفسه لأن مضرة عاقبته من العقاب تعود عليه (وَما أَنْتَ) يا محمد (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي برقيب في ايصال الحق إلى قلوبهم ، وحفظه عليهم حتى لا يتركوه ولا ينصرفوا عنه ، إذ لا تقدر على اكراههم على الإسلام (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي يقبضها إليه وقت موتها وانقضاء آجالها (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، وهي التي تفارق النائم فلا يعقل ، والتي تتوفى عند الموت هي نفس الحياة التي إذا زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس ؛ فالفرق بين قبض النوم وقبض الموت أن قبض النوم يضاد اليقظة ، وقبض الموت يضاد الحياة ، وقبض النوم يكون الروح معه في البدن ، وقبض الموت يخرج الروح معه من البدن (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) إلى يوم القيامة لا تعود إلى الدنيا (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) يعني الأنفس الأخرى التي لم يقض على موتها : يريد نفس النائم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قد سمّي لموته (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلالات واضحات على توحيد الله وكمال قدرته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في الأدلة إذ لا يقدر على قبض النفوس تارة بالنوم وتارة بالموت غير الله تعالى قال ابن عباس : في بني آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والتحرك ، فإذا نام قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ، وإذا مات قبض الله نفسه وروحه (أَمِ اتَّخَذُوا) أي بل اتخذوا (مِنْ دُونِ اللهِ) آلهة (شُفَعاءَ قُلْ) يا محمد (أَوَلَوْ كانُوا) يعني الآلهة (لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) من الشفاعة (وَلا يَعْقِلُونَ) وجواب هذا الاستفهام محذوف تقديره : أو لو كانوا بهذه الصفة يتخذونهم شفعاء ويعبدونهم راجين شفاعتهم؟ ثم قال (قُلْ) لهم (لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي لا يشفع أحد إلّا بإذنه ، عن مجاهد ، والمعنى : لا يملك أحد الشفاعة إلّا بتمليكه كما قال : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مضى معناه ، ثم أخبر سبحانه عن سوء اعتقادهم ، وشدّة عنادهم فقال (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) أي نفرت ، عن السدي والضحاك والجبائي ، وقيل : انقبضت ، عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل ، وقيل : كفرت واستكبرت (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) كان المشركون إذا سمعوا قول لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، نفروا من هذا لأنهم كانوا يقولون : الأصنام آلهة (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام التي عبدوها من دونه (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون ويسرّون حتى يظهر السرور في وجوههم.
٤٦ ـ ٥٠ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلة فلم ينظروا فيها ، والمواعظ فلم يتعظوا بها ، أمر نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقونه فقال (قُلِ) يا محمد ادع بهذا الدعاء (اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يا خالقهما ومنشئهما (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يا عالم ما غاب علمه عن جميع الخلق ، وعالم ما يشهدوه وعلموه (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) يوم القيامة (فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في