المبين للحلال والحرام ، المبين ما يحتاج إليه الأنام من شرائع الإسلام (إِنَّا جَعَلْناهُ) أي أنزلناه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي بلسان العرب والمعنى : جعلناه على طريقة العرب في مذاهبهم في الحروف والمفهوم ، ومع ذلك فإنّه لا يتمكّن أحد منهم من إنشاء مثله ، والابتداء بما يقاربه من علو طبقته في البلاغة والفصاحة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعقلوا وتتفكروا فيه فتعلموا صدق من ظهر على يده (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي في اللوح المحفوظ ؛ وإنما سمّي أمّا لأنّ سائر الكتب تنسخ منه. وقيل : لأنّ أصل كل شيء أمه ، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ، كما قال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) عن الزجاج ، وهو الكتاب الذي كتب الله فيه ما يكون إلى يوم القيامة لما رأى في ذلك من صلاح ملائكته بالنظر فيه ، وعلم فيه من لطف المكلفين بالاخبار عنه (لَدَيْنا) أي الذي عندنا (لَعَلِيٌ) أي عال في البلاغة ، مظهر ما بالعباد إليه من الحاجة. وقيل : معناه يعلو كل كتاب مما اختصّ به من كونه معجزا وناسخا للكتب وبوجوب إدامة العمل به وبما تضمّنه من الفوائد ، وقيل : علي أيّ عظيم الشأن ، رفيع الدرجة تعظّمه الملائكة والمؤمنون (حَكِيمٌ) أي مظهر للحكمة البالغة. وقيل : حكيم : دلالة على كل حق وصواب ، فهو بمنزلة الحكيم الذي لا ينطق إلّا بالحق وصف الله تعالى القرآن بهاتين الصفتين على سبيل التوسع لأنّهما من صفات الحي.
ثم خاطب سبحانه من لم يعتبر بالقرآن ، وجحد ما فيه من الحكمة والبيان فقال : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) والمراد بالذكر هنا القرآن ، أي أفنترك عنكم الوحي صفحا فلا نأمركم ولا ننهاكم ، ولا نرسل إليكم رسولا (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي لأن كنتم ، والمعنى : أفنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم فلا نعرّفكم ما يجب عليكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم؟ وهذا استفهام انكار ومعناه : إنّا لا نفعل ذلك.
٦ ـ ١٠ ـ ثم عزّى سبحانه نبيّه (ص) بقوله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) أي في الأمم الماضية (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني أنّ الأمم الخالية التي ذكرناها كفرت بالأنبياء وسخرت منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم ، واستهزأت بهم كما استهزأ قومك بك ، أي فلم نضرب عنهم صفحا لاستهزائهم برسلهم ، بل كرّرنا الحجج ، وأعدنا الرسل (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي فأهلكنا من أولئك الأمم بأنواع العذاب من كان أشدّ قوة ومنعة من قومك ، فلا يغترّ هؤلاء المشركون بالقوة والنجدة (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي سبق فيما أنزلنا إليك شبه حال الكفار الماضية بحال هؤلاء في التكذيب ، ولما أهلكوا أولئك بتكذيبهم رسلهم فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي إن سألت قومك يا محمد (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي أنشأهما واخترعهما (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي لم يكن جوابهم في ذلك إلا أن يقولوا خلقهن يعني السماوات والأرض العزيز القادر الذي لا يقهر ، العليم بمصالح الخلق وهو الله تعالى لأنهم لا يمكنهم أن يحيلوا في ذلك على الأصنام والأوثان ، وهذا إخبار عن غاية جهلهم إذ اعترفوا بأنّ الله خلق السماوات والأرض ثم عبدوا معه غيره ، وأنكروا قدرته على البعث.
ثم وصف سبحانه نفسه فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) وقد مضى ذكره في طه (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تسلكونها (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم.
١١ ـ ١٥ ـ ثم أكّد سبحانه ما قدّمه بقوله : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ