السَّماءِ ماءً) أي غيثا ومطرا (بِقَدَرٍ) أي بقدر الحاجة لا زائدا عليها فيفسد ، ولا ناقصا عنها فيضرّ ولا ينفع ، وفي ذلك دلالة على أنه واقع من قادر مختار قدّره على ما تقتضيه الحكمة لعلمه بذلك (فَأَنْشَرْنا) أي فأحيينا (بِهِ) أي بذلك المطر (بَلْدَةً مَيْتاً) أي جافّة يابسة بإخراج النبات والأشجار والزروع والثمار (كَذلِكَ) أي مثل ما أخرج النبات من الأرض اليابسة (تُخْرَجُونَ) من قبوركم يوم البعث (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) يعني أزواج الحيوان من ذكر وأنثى ، وقيل معناه : خلق الاشكال جميعها من الحيوان والجماد ، فمن الحيوان : الذكر والأنثى ، ومن غير الحيوان مما هو كالمقابل كالحلو والمرّ ، والرطب واليابس ، وغير ذلك ، وقيل : الأزواج : الشتاء والصيف ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والسماء والأرض ، والجنّة والنار ، عن الحسن (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ) أي السفن (وَالْأَنْعامِ) من الإبل (ما تَرْكَبُونَ) في البحر والبر (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) بيّن سبحانه أنّ الغرض في خلق ما ذكر لتستووا على ظهور ما جعل لكم (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) فتشكروا على تلك النعمة التي هي تسخير ذلك المركب (وَتَقُولُوا) معترفين بنعمه ، منزّهين له عن شبه المخلوقين (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) المركب أي ذلله لنا حتى ركبناه (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين مقاومين في القوّة (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي ولتقولوا أيضا ذلك ومعناه : وإنّا إلى الله راجعون في آخر عمرنا على مركب آخر وهو الجنازة.
وروي أنّ رسول الله (ص) كان إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبّر ثلاثا وقال : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ، اللهمّ إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، والعمل بما ترضى ، اللهمّ هوّن علينا سفرنا ، واطو عنّا بعده ، اللهمّ أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل والمال ، اللهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المطر في الأهل والمال ، وإذا رجع قال : آئبون تائبون لربّنا حامدون. وروى العياشي بإسناده عن أبي عبد الله (ع) قال : ذكر النعمة أن تقول : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وعلّمنا القرآن ، ومنّ علينا بمحمد (ص) وتقول بعده : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) إلى آخره ، ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي نصيبا ، يعني حكموا بأنّ بعض عباده وهم الملائكة له أولاد ومعنى الجعل هنا الحكم (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي جاحد لنعم الله ، مظهر لكفره ، غير مستتر به.
١٦ ـ ٢٠ ـ ثم أنكر سبحانه عليهم قولهم فقال (أَمِ) وهذا استفهام إنكار وتوبيخ ومعناه : بل (اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) أي اتّخذ ربكم لنفسه البنات (وَأَصْفاكُمْ) أي أخلصكم (بِالْبَنِينَ) وهذا كقوله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) الآية ، ثم زاد في الاحتجاج عليهم بأن قال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي بما جعل لله شبيها ، والمعنى : وإذا بشر أحدهم بولادة ابنة له (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) بما يلحقه من الغمّ بذلك (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء كربا وغيظا ثم وبّخهم بما افتروه فقال : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) أي أو جعلوا من ينشّؤ في الحلية ـ أي في زينة النساء ـ لله عزوجل يعني البنات (وَهُوَ فِي الْخِصامِ) يعني المخاصمة (غَيْرُ مُبِينٍ) للحجة أي لا يمكنها أن تبين الحجة عند الخصومة لضعفها (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) بأن زعموا أنّهم بنات الله (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) هذا ردّ عليهم ، أي : أحضروا خلقهم حتى علموا أنهم إناث وهذا كقوله : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً