أربعين يوما (يَغْشَى النَّاسَ) يعني ان الدخان يعمّ جميع الناس (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع.
١٢ ـ ٢٠ ـ ثمّ لما أخبر سبحانه أنّ الدخان يغشى الناس عذابا لهم ، وانهم يقولون : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) ، حكى عنهم أيضا قولهم : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) بمحمد (ص) والقرآن قال سبحانه : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي من أين لهم التذكّر والاتعاظ وكيف يتذكّرون ويتّعظون؟ (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي وحالهم انّهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق والدلالة (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي أعرضوا عنه ولم يقبلوا قوله (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي هو معلّم يعلمّه بشر مجنون بادعاء النبوة.
ثم قال سبحانه : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) أي عذاب الدخان (قَلِيلاً) أي زمانا قليلا يسيرا (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إلى العذاب الأكبر وهو عذاب جهنم ؛ والقليل مدّة ما بين العذابين (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) وتكون يوم القيامة ، والبطش : هو الأخذ بشدّة وقع الألم (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) منهم ذلك اليوم.
ثم قال سبحانه : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ) أقسم سبحانه انّه فتن قبل كفار قوم النبي (ص) (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي اختبرهم وشدّد عليهم التكليف ، لأنّ الفتنة : شدّة التعبد ، وأصلها الإحراق بالنار لخلاص الذهب من الغشّ ، وقيل : إنّ الفتنة معاملة المختبر ، ليجازى بما يظهر ، دون ما يعلم مما لا يظهر (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي كريم الأخلاق والأفعال بالتجاوز والصفح والدعاء إلى الصلاح والرشد ، وقيل : كريم عند الله بما استحقّ بطاعته من الإكرام والإعظام ، وقيل : كريم شريف في قومه من بني إسرائيل (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) هذا من قول موسى (ع) لفرعون وقومه والمعنى : اطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير فإنّهم أحرار ، فهو كقوله : (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فيكون ((عِبادَ اللهِ)) مفعول (أدّوا) وقال الفرّاء : أدّوا إليّ ما آمركم به يا عباد الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) على ما أؤدّيه وأدعوكم إليه (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي لا تتجبّروا على الله بترك طاعته (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة واضحة يظهر الحقّ معها.
فلمّا قال ذلك توعدوه بالقتل والرجم فقال : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي لذت بمالكي ومالككم ، والتجأت إليه (أَنْ تَرْجُمُونِ) أي من أن ترموني بالحجارة (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي إن لم تصدقوني فاتركوني لا معي ولا عليّ.
٢٢ ـ ٢٩ ـ ثم ذكر سبحانه تمام قصّة موسى بأن قال : (فَدَعا رَبَّهُ) أي فدعا موسى ربّه حين يئس من قومه أن يؤمنوا به فقال : (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي مشركون لا يؤمنون فكأنّه قال : اللهم عجّل لهم مما يستحقّونه بكفرهم ما يكونون به نكالا لمن بعدهم (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) فأجيب بأن قيل له : (فَأَسْرِ بِعِبادِي) ، أمره سبحانه أن يسير بأهله وبالمؤمنين به ليلا حتى لا يردّهم فرعون إذا خرجوا نهارا ، وأعلمه بأنه سيتبعهم فرعون بجنوده بقوله : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي ساكنا على ما هو به إذا قطعته وعبرته ، وكان قد ضربه بالعصا فانفلق لبني إسرائيل ، فأمره الله سبحانه أن يتركه كما هو ليغرق فرعون وقومه عن ابن عباس ومجاهد. وقيل : رهوا : أي منفتحا منكشفا حتى يطمع فرعون في دخوله عن أبي مسلم (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) سيغرقهم الله تعالى ، ثم أخبر سبحانه عن حالهم بعد اهلاكهم فقال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) رائعة (وَعُيُونٍ) جارية (وَزُرُوعٍ) كثيرة (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي مجالس شريفة ، ومنازل خطيرة وقيل : هي المناظر الحسنة ومجالس الملوك ، عن مجاهد. وقيل : منابر الخطباء عن ابن عباس وقيل : المقام الكريم الذي يعطي اللذة كما يعطي الرجل الكريم الصلة عن علي بن عيسى.