الأخرى ، فإن الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل فيما يحتاج إليه من أمور الدين في الحج وغيره من الأحكام ، وذلك كله في القرآن ، ووصفه بالكتاب يفيد أنّ من شأنه أن يكتب وقيل المراد بالفرقان الحجة القاطعة لمحمد (ص) على من حاجّه في أمر عيسى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بحججه ودلالاته (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لما بيّن حججه الدالة على توحيده ، وصدق انبيائه عقب ذلك بوعيد من خالف فيه وجحده ليتكامل به التكليف (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي قادر لا يتمكن أحد أن يمنعه من عذاب من يريد عذابه (ذُو انْتِقامٍ) أي ذو قدرة على الإنتقام من الكفار لا يتهيأ لأحد منعه ، والإنتقام مجازاة المسيء على إساءته (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لمّا ذكر سبحانه الوعيد على الإخلال بمعرفته مع نصب الأدلة على توحيده ، وصدق أنبيائه اقتضى أن يذكر أنه لا يخفى عليه شيء فيكون في ذلك تحذير من الإغترار بالإستسرار بمعصيته ، لأن المجازي لا تخفى عليه خافية.
٦ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) أي يخلق صوركم في الأرحام (كَيْفَ يَشاءُ) على أيّ صورة شاء ، وعلى أيّ صفة شاء من ذكر وأنثى ، أو صبيح أو دميم ، أو طويل أو قصير (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في أفعاله ، ودلت الآية على
وحدانية الله وكمال قدرته ، وتمام حكمته حيث صور الولد في رحم الأم على هذه الصفة ، وركب فيه من أنواع البدائع من غير آلة ولا كلفة.
٧ ـ لما تقدم بيان إنزال القرآن عقّبه ببيان كيفية إنزاله فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) أي القرآن (مِنْهُ) أي من الكتاب (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل الكتاب (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) المحكم : ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ، ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى إن الله لا يظلم الناس شيئا. والمتشابه : ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه نحو قوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق ، وإنما يحصل الزيغ بشك أو جهل (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي يحتجون به على باطلهم (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي لطلب الضلال والإضلال ، وإفساد الدين على الناس (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ولطلب تأويله على خلاف الحق (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون في العلم ، الضابطون له ، المتقنون فيه (يَقُولُونَ) تقديره : قائلين (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) معناه : المحكم والمتشابه جميعا من عند ربنا (وَما يَذَّكَّرُ) أي وما يتفكر في آيات الله ، ولا يرد المتشابه إلى المحكم (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول وقال القاضي الماوردي : قد وصف الله تعالى جميع القرآن بأنه محكم بقوله : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) ، ووصف جميعه أيضا بأنه متشابه بقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) ، فمعنى الإحكام : الإتقان والمنع ، أي هو ممنوع باتقانه واحكام معاينة عن اعتراض خلل فيه ، فالقرآن كله محكم من هذا الوجه ، وقوله : متشابها أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق والثواب والبعد عن الخلل والتناقض ، فهو كله متشابه من هذا الوجه.
٨ ـ ٩ ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) هذه حكاية عن قول الراسخين في العلم الذين ذكرهم الله في الآية ، ومعناه : لا تمنعنا لطفك الذي معه تستقيم القلوب (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي من عندك لطفا نتوصل به إلى الثبات على الإيمان إذ لا نتوصل إلى الثبات على الإيمان ، إلّا بلطفك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي لنعمه ، الذي شأنه الهبة والعطية (رَبَّنا) أي ويقولون : يا سيّدنا وخالقنا (إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ)