صاحبه ، إما في الجنة أو في النار (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أي ولقد جاء هؤلاء الكفار (مِنَ الْأَنْباءِ) يعني الأخبار العظيمة في القرآن بكفر من تقدم من الأمم ، وإهلاكنا إياهم (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي متعظ وإزدجار عن الكفر وتكذيب الرسل (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) يعني القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية والنهاية (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أي أيّ شيء تنفع النذر مع تكذيب هؤلاء واعراضهم؟! والنذر : هي الزواجر المخوفة ، وآيات الوعيد. ثم أمره سبحانه بالإعراض عنهم فقال (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي اعرض عنهم ولا تقابلهم على سفههم وهاهنا وقف تام (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي منكر غير معتاد ولا معروف ، بل أمر فظيع لم يروا مثله فينكرونه استعظاما ؛ والداعي هو إسرافيل يدعو الناس إلى الحشر قائما على صخرة بيت المقدس (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) يعني خاشعة أبصارهم : أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب ؛ وإنما وصف الأبصار بالخشوع لأن ذلة الذليل ، أو عزة العزيز تتبين في نظره ، وتظهر في عينه (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي من القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) والمعنى : أنهم يخرجون فزعين يدخل بعضهم في بعض ، ويختلط بعضهم ببعض ، لا جهة لأحد منهم فيقصدها ، كما ان الجراد لا جهة لها فتكون أبدا متفرقة في كل جهة (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مقبلين إلى صوت الداعي (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي صعب شديد (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل كفار مكة (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا كما كذبك يا محمد هؤلاء الكفار وجحدوا نبوتك (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أي هو مجنون (وَازْدُجِرَ) أي زجر بالشتم والرمي بالقبيح عن ابن زيد ، وقيل معناه : زجر بالوعيد ، وتوعّد بالقتل ، فهو مثل قوله : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي فقال : يا رب قد غلبني هؤلاء الكفار بالقهر لا بالحجة فانتصر ، أي فانتقم لي منهم بالإهلاك والدمار نصرة لدينك ونبيّك وفي هذا دلالة على وجوب الانقطاع إلى الله تعالى عند سماع الكلام القبيح من أهل الباطل.
١١ ـ ٢١ ـ ثم بيّن سبحانه اجابته لدعاء نوح (ع) فقال (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) معناه : فاستجبنا لنوح دعاءه ففتحنا أبواب السماء ، أي أجرينا الماء من السماء كجريانه إذا فتح عنه باب كان مانعا له ، وذلك من صنع الله الذي لا يقدر عليه سواه (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي منصب انصبابا شديدا لا ينقطع (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي شققنا الأرض بالماء عيونا حتى جرى الماء على وجه الأرض (فَالْتَقَى الْماءُ) يعني فالتقى الماءان : ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) فيه هلاك القوم ، أي على أمر قد قدره الله تعالى وهو هلاكهم (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) أي وحملنا نوحا على سفينة ذات ألواح مركّبة بعضها إلى بعض ، وألواحها : خشباتها التي منها جمعت (وَدُسُرٍ) أي مسامير شدّت بها السفينة (تَجْرِي) السفينة في الماء (بِأَعْيُنِنا) أي بحفظنا وحراستنا ، وبمرأى منا (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) لمن جحد نبوته ، وأنكر حقه وكفر بالله فيه (وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي تركنا هذه الفعلة التي فعلناها (آيَةً) معناه : تركنا السفينة ونجاة من فيها وإهلاك الباقين دلالة باهرة على وحدانية الله تعالى ، وعبرة لمن اتعظ بها ، وكانت السفينة باقية حتى رآها أوائل هذه الأمة عن قتادة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي متذكر يعلم أن ذلك حق فيعتبر به ويخاف ، وقيل معناه : فهل من طالب علم فيعان عليه ، عن قتادة (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) هذا استفهام عن تلك الحالة ومعناه : التعظيم لذلك العذاب ، أي كيف رأيتم انتقامي منهم ، وانذاري إياهم؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهّلناه للحفظ والقراءة حتى يقرأ كله ظاهرا ، وليس من كتب الله المنزلة كتاب يقرأ كله ظاهرا إلّا القرآن ؛ والتيسير للشيء هو تسهيله بما ليس فيه كثير