(بِمَصابِيحَ) يعني الكواكب ، سمّاها المصابيح لإضاءتها (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) الذين يسترقون السمع وقيل : ينفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين ، فأما الكواكب أنفسها فليست تزول إلى أن يريد الله تعالى إفناءها (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) يعني أنا جعلنا مع الكواكب رجوما للشياطين ، هيّأنا لهم ، وادّخرنا لأجلهم عذاب النار المسعرة المشعلة.
٦ ـ ١١ ـ لمّا تقدّم وعيد الشياطين الذين دعوا إلى الكفر والضلال ، اتبعه سبحانه بذكر الكفار الضلال فقال (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لبئس المآل والمرجع (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أي إذا طرح الكفار في النار سمعوا للنار صوتا فظيعا مثل صوت القدر عند فورانها وغليانها ، فيعظم بسماع ذلك عذابهم لما يرد على قلوبهم من هوله (وَهِيَ تَفُورُ) أي تغلي بهم كغلي المرجل (تَكادُ تَمَيَّزُ) أي تتقطع وتتفرق (مِنَ الْغَيْظِ) أي شدّة الغضب. سمّى سبحانه شدة التهاب النار غيظا على الكفار لأن المغتاظ هو المتقطع مما يجد من الألم ، الباعث على الإيقاع بغيره ، فحال جهنم كحال المتغيظ (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها) أي كلّما طرح في النار (فَوْجٌ) من الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي تقول لهم الملائكة الموكّلون بالنار على وجه التبكيت لهم في صيغة الاستفهام : ألم يجئكم مخوّف من جهة الله سبحانه يخوّفكم عذاب هذه النار؟ (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي فيقولون في جوابهم : بلى قد جاءنا مخوّف فلم نصدّقه وكذّبناه ولم نقبل منه ، بل قلنا له : ما نزّل الله شيئا مما تدعونا إليه وتحذرنا منه ، فتقول لهم الملائكة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) معناه : قلنا للرسل ما أنتم إلا في ضلال : أي ذهاب عن الصواب كبير في قولكم أنزل الله علينا كتابا (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) من النذر ما جاؤونا به ، ودعونا إليه ، وعملنا بذلك (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) قال الزجاج : لو كنا نسمع سمع من يعي ويفكر ، ونعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) في ذلك الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإقرار والاعتراف (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) هذا دعاء عليهم ، أي أسحقهم الله وأبعدهم من النجاة سحقا.
١٢ ـ ٢١ ـ لمّا تقدّم الوعيد عقّبه سبحانه بالوعد فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي يخافون عذاب ربهم باتقاء معاصيه وفعل طاعاته على وجه الاستسرار بذلك ، لأن الخشية متى كانت بالغيب على ما ذكرنا كانت بعيدة من الرياء ، خالصة لوجه الله وقيل : يخافونه حيث لا يراهم مخلوق ، لأن أكثر ما ترتكب المعاصي إنما ترتكب في حال الخلوة ، فهم يتركون المعصية لئلّا يجعلوا الله سبحانه أهون الناظرين إليهم ، ولأن من تركها في هذه الحال تركها في حال العلانية أيضا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي عظيم في الآخرة لا فناء له. ثم قال سبحانه مهدّدا للعصاة (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعني أنه عالم بإخلاص المخلص ، ونفاق المنافق ، فإن شئتم فأظهروا القول ، وإن شئتم فأبطنوه فإنه عليم بضمائر القلوب ، ومن علم اضمار القلب علم اسرار القول (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) معناه : ألا يعلم سرّ العبد من خلقه ، أي من خلق العبد (وَهُوَ اللَّطِيفُ) بعباده من حيث يدبّرهم بألطف التدبير ، واللطيف التدبير من يدبر تدبيرا نافذا لا يجفو عن شيء يدبره ، وقيل : اللطيف من كان فعله في اللطف بحيث لا يهتدي إليه غيره ، وهو فعيل بمعنى فاعل ، كالقدير والعليم ، وقيل : هو بمعنى الملطف ، كالبديع بمعنى المبدع والعليم ، وقيل : اللطيف الذي يكلّف اليسير ، ويعطي الكثير (الْخَبِيرُ) العالم بالعباد وأعمالهم. ثم عدّد سبحانه أنواع نعمه ممتنا على عباده بذلك فقال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) موطأة للتصرف فيها ، والمسير عليها ،