يكتبه الملائكة مما يوحى إليهم ، وما يكتبونه من أعمال بنى آدم ، فكان القسم بالقلم وما يسطر بالقلم (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) هو جواب القسم ومعناه : لست يا محمد بمجنون بنعمة ربّك كما تقول : ما أنت بنعمة ربّك بجاهل (وَإِنَّ لَكَ) يا محمد (لَأَجْراً) أي ثوابا من الله على قيامك بالنبوة ، وتحملك أعباء الرسالة (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع وهو ثواب الجنة ، يعني لا تبال بكلامهم مع ما لك عند الله من الثواب الدائم ، والأجر العظيم. ثم وصف سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) أي على دين عظيم وهو دين الإسلام وقيل : الخلق العظيم الصبر على الحق ، وسعة البذل ، وتدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح والرفق ، والمداراة ، وتحمل المكاره في الدعاء إلى الله سبحانه ، والتجاوز والعفو ، وبذل الجهد في نصرة المؤمنين ، وترك الحسد والحرص ونحو ذلك (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) أي فسترى يا محمد ويرون ، يعني الذين رموه بالجنون (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي أيّكم المجنون الذي فتن بالجنون أأنت أم هم؟ يريد أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين كذّبوك وتركوا دينك لا بك (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) الذي هو سبيل الحق ، وعدل عنه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إليه فيجازي كلّا بما يستحقّه ويستوجبه. ثم قال سبحانه للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) بتوحيد الله عزوجل ، الجاحدين لنبوّتك ، ولا تجبهم إلى ما يلتمسون منك ، ولا توافقهم فيما يريدون (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي ودّ هؤلاء الكفار أن تلين لهم في دينك فيلينون في دينهم ؛ شبّه التليين في الدين بتليين الدهن عن ابن عباس ؛ والإدهان : الجريان في ظاهر الحال على المقاربة مع اضمار العداوة وهو مثل النفاق (فَلا تُطِعِ) يا محمد (كُلَّ حَلَّافٍ) أي كثير الحلف بالباطل لقلة مبالاته بالكذب (مَهِينٍ) فعيل من المهانة وهي القلة في الرأي والتمييز (هَمَّازٍ) أي وقاع في الناس مغتاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي قتات يسعى بالنميمة ، ويفسد بين الناس ، ويضرب بعضهم على بعض (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بالمال (مُعْتَدٍ) أي مجاوز عن الحق غشوم ظلوم عن قتادة (أَثِيمٍ) أي آثم فاجر ، فاعل ما يأثم به (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) وهو الفاحش السيّء الخلق (زَنِيمٍ) أي دعيّ ملصق إلى قوم ليس منهم في النسب ، وقيل : هو الذي له علامة في الشر وهو معروف بذلك ، فإذا ذكر بالشر سبق القلب إليه (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين ، يعني لماله وبنيه (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديث الأوائل التي سطرت وكتبت لا أصل لها. ثم أوعده سبحانه فقال (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنسمه يوم القيامة بسمة تشوّه خلقته فيعرف من رآه أنه من أهل النار ؛ وإنما خصّ الأنف لأن الإنسان يعرف بوجهه ، والأنف وسط الوجه ، وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون : شمخ فلان بأنفه ، وأرغم الله أنفه.
١٧ ـ ٣٣ ـ ثم قال سبحانه (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) يعني أهل مكة ، أي اختبرناهم بالجوع والقحط (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي البستان الذي فيه الشجر. وهذه الجنة حديقة كانت باليمن لشيخ ، وكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله ويتصدق بالباقى ، فلما مات قال بنوه : نحن أحق بها لكثرة عيالنا ، ولا يسعنا أن نفعل كما فعل أبونا ، وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله تعالى في كتابه وهو قوله (إِذْ أَقْسَمُوا) أي حلفوا فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي ليقطعنّ ثمرتها إذا دخلوا في وقت الصباح (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي غير مستثنين في إيمانهم فلم يقولوا : إن شاء الله (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) أي أحاطت بها النار فاحترقت (وَهُمْ نائِمُونَ) أي في حال نومهم (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي كالليل المظلم ، والصريمان : الليل والنهار لانصرام احداهما