هجوم انقطاع التكليف ، أو تغيير الأمر بتصديق نبيّ من الأنبياء وذلك قوله (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) معناه : ان هذا المنع لا يدرى العذاب سينزل بأهل الأرض أم لنبيّ يبعث ويهدي إلى الرشد؟ فإن مثل هذا لا يكون إلّا لأحد هذين الأمرين ، وسمى العذاب شرّا لأنه مضرّة ، وسمى بعثة الرسول رشدا لأنه منفعة.
١١ ـ ٢٠ ـ ثم قال سبحانه في تمام الحكاية عن الجن الذين آمنوا عند سماع القرآن (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) وهم الذين عملوا الصالحات المخلصون (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي دون الصالحين في الرتبة (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي فرقا شتّى على مذاهب مختلفة ، وأهواء متفرقة ، من مسلم وكافر ، وصالح ودون الصالح (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي علمنا وتيقّنا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي لن نفوته إذا أراد بنا أمرا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي أنه يدركنا حيث كنّا (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) اعترفوا بأنهم لما سمعوا القرآن الذي فيه الهدى صدّقوا به ، ثم قالوا (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) أي يصدق بتوحيد ربه ، وعرفه على صفاته (فَلا يَخافُ) تقديره : فإنه لا يخاف (بَخْساً) أي نقصانا فيما يستحقّه من الثواب (وَلا رَهَقاً) أي لحاق ظلم ، وغشيان مكروه ، وكأنّه قال : لا يخاف نقصا قليلا ولا كثيرا وذلك أن أجره وثوابه موفر على أتمّ ما يمكن فيه ؛ وهذه حكاية عن قوة إيمان الجن وصحة إسلامهم ، ثم قالوا (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) الذين استسلموا لما أمرهم الله سبحانه به ، وانقادوا لذلك (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الجائرون عن طريق الحق (فَمَنْ أَسْلَمَ) لما أمره الله به (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي توجّهوا الرشد ، والتمسوا الثواب والهدى ، وتعمدوا إصابة الحق ، وليسوا كالمشركين الذين ألفوا ما يدعوهم إليه الهوى ، وزاغوا عن طريق الهدى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) العادلون عن طريق الحق والدين (فَكانُوا) في علم الله وحكمه (لِجَهَنَّمَ حَطَباً) يلقون فيها فتحرقهم كما تحرق النار الحطب (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي لو استقام الأنس والجن على طريقة الإيمان عن ابن عباس والسدي وقيل : أراد به مشركي مكة ، أي لو آمنوا واستقاموا على الهدى لأسقيناهم ماءا كثيرا من السماء ، وذلك بعد ما رفع ماء المطر عنهم سبع سنين وقيل : أي لو آمنوا واستقاموا لوسّعنا عليهم في الدنيا ، وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير كله والرزق يكون في المطر ، وهذا كقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) ـ إلى قوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، وقوله (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم بذلك والأولى أن تكون الاستقامة على الطريقة محمولة على الاستقامة في الدين والإيمان لأنها لا تطلق إلّا على ذلك ، ولأنها في موضع التلطف والاستدعاء إلى الإيمان ، والحثّ على الطاعة. ثم قال سبحانه على وجه التهديد والوعيد (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي ومن يعدل عن الفكر فيما يؤدّيه إلى معرفة الله وتوحيده ، والإخلاص في عبادته وقيل : عن شكر الله وطاعته (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي يدخله عذابا شاقا شديدا متصعدا في العظم (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) تقديره : ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سوى الله والمعنى : لا تذكروا مع الله في المواضع التي بنيت للعبادة والصلاة أحدا على وجه الإشراك في عبادته كما تفعل النصارى في بيعهم ، والمشركون في الكعبة. وقال سعيد بن جبير : قالت الجن للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت الآية (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يريد به محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم (يَدْعُوهُ) بقول لا إله إلا الله ، ويدعو إليه ، ويقرأ القرآن (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي كاد الجن يركب بعضهم بعضا يزدحمون عليه حرصا منهم على استماع القرآن (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً)