يحرمون الذبائح ويقولون : ليس من الحكمة إيلام من لا ذنب له. أو ذكر لمكان قول من يقول : إنكم أكلتم ما تذبحون بأيديكم ولا تأكلون ما تولى الله قتله (١).
__________________
(١) اهتدى الإنسان بفطرته منذ خلق إلى ضرورة ذبح الحيوان ؛ لاتخاذه طعاما ، إلا أن طائفا ألم ببعض الرءوس في بعض عصور الوثنية فنشأت طائفة من الغلاة تستنكر إزهاق روح الحيوان لاتخاذه طعاما ، وزعموا أن في ذلك لونا من التعذيب لا يتفق مع سمو الإنسانية.
نقل إلينا ذلك كثير من المفسرين عند تفسير قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ)[المائدة : ١].
قال صاحب روح المعاني : في الآية رد على المجوس فإنهم حرموا ذبائح الحيوانات وأكلها ، قالوا : لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح ، خصوصا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم ، وزعموا أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور ... ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بالذبح عن الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم ، وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون.
ولا يخفى أن ذلك مصادم للبديهة ، ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم.
وقال المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقا ، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقا بجناية ولا ملحقا بعوض ، وهاهنا الله سبحانه وتعالى يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة ، وحينئذ يخرج الذبح من أن يكون ظلما.
قالوا : والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول من أنه يحسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة كما في الفصد والحجامة لطلب الصحة وكذلك القول في الذبح.
وهو مردود ؛ لأن الوارد أنها تبعث ـ على قول ـ ليقتص للمظلوم منها من الظالم ثم يقال لها : [كوني ترابا] وأجاب أهل السنة : بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه. والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط البحث فيهما في علم الكلام ، وكذا القول بالنور والظلمة.
وقال بعض المحققين : لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات ، وبه تمت نسخة العالم ، لم يقبح عقلا جعل شيء مما دونه غذاء له ، مأذونا بذبحه ، وإيلامه ؛ اعتناء بمصلحته ، حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار.
وقال الإمام السرخسي : إن بعض العراقيين زعم أن الذبح محظور عقلا ؛ لما فيه من إيلام للحيوان. وهذا باطل ؛ فقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتناول من اللحم قبل مبعثه ، ولا يظن أنه كان يتناول ذبائح المشركين ؛ لأنهم كانوا يذبحون باسم الأصنام ، فعرفنا أنه كان يذبح ويصطاد بنفسه ، وما كان يفعل ما هو محظور عقلا كالظلم والكذب والسفه ؛ فإنه لا يجوز أن يظن أنه فعل ذلك قط.
مما تقدم يعلم أن كلا ممن حظر الذبح أو أحله جعل مناطه العقل أو السمع. ومعلوم أن العقل والشرع لا يحظران ما يعود على الناس بالنفع ، وفي تذكية الحيوان منافع جمة ؛ حيث ينتفع بأكل لحوم بعضها ، وبجلود البعض الآخر في اللباس ، والفراش ، والزينة. وهذا غاية إكرام الله تعالى لبني آدم ؛ حيث سخر له ما في الأرض جميعا ، لينتفع به في حاجاته الكثير ، وأباح له ألذ النعم وأجلها.
ولو تركت بهيمة الأنعام من غير حل ذبحها ، لنتجت وتكاثرت واستنفذت قوت الإنسان فتأكل ـ