وقال بعضهم : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) في تحريم الأشياء وتحليلها ، ليس لهؤلاء الذين يحرمون أشياء لهم في تحريمهم حجة ، إنما يحرمون ذلك بهوى أنفسهم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).
قال الحسن : المشيئة ـ هاهنا ـ : مشيئة القدرة ، وقال : لو شاء قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط ؛ على ما جعل الملائكة جبلهم على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط ، ثم هو يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعا ، ويقول : هم مجبورون على الطاعة ، فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورا مجبورا على الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه ، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة ، أو يقول (١) : فضلهم بالجوهر والأصل ، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونا بالأعمال الصالحة الطيبة ؛ كقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) [إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٦] وغيره ، وقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف : ٥٨] وقوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ونحوه ، لم يفضل أحدا بالجوهر على أحد ، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة ؛ لذلك قلنا : إن قوله يخرج على التناقض ، وتأويل قوله : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) عندنا ظاهر ، لو شاء لهداهم جميعا ، ووفقهم للطاعة ، وأرشدهم لذلك ، وهو كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ...) الآية [الزخرف : ٣٣] فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة ، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا ، ثم لم يجعل كذلك ، دل هذا على أن قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) هو الأمر والرضا ، أو ذكروا على الاستهزاء ؛ حيث قال : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).
والمعتزلة يقولون : المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة قسر وقهر ، وقد ذكرنا ألا يكون في حال القهر إيمان ، وإنما يكون في حال الاختيار ، والمشيئة مشيئة الاختيار ، ولا تحتمل مشيئة الخلقة ؛ لأن كل واحد (٢) بمشيئة الخلقة مؤمن (٣) ، فدل أن التأويل ما ذكرنا.
__________________
(١) فى أ : ويقول.
(٢) في أ : أحد.
(٣) في أ : المؤمن.